عن التشدد والمتدينين

لا أدعي أني رجل ضليع بأمور الفقه والدين والعقيدة، فهذه المواضيع كثيرا ما تؤزمني إذا أخذت في البحث فيها، وأعتقد أني لا أحب كثيرا أن أضيع وقتي عليها، إلا إذا كانت هناك قضية أو بالأحرى عدم معرفة بمسألة فقهية تخصني في حياتي وتحتاج مني أن أبحث فيها قليلا وأجتهد من أجل أن أتوصل إلى حل لها.. في المقابل لست ضد التدين ولست منفلتا من الدين كله، كما قد يتصور بعض من يعرفني ومن لا يعرفني
لكنني مجملا ضد التعصب والتشدد الذي يطلقه هؤلاء الملتحون القادمون من غبار التاريخ الأسود مدعين أنهم أصحاب المعرفة الحقيقية، وبأنهم الصواب الذي يمشي على الأرض، ولا أحد غيرهم: مشايخ اليهود والنصارى وأيضا المسلمين! وأظن أن هؤلاء هم من جر العالم كله إلى ما نحن عليه اليوم من انغلاق في الرؤى وانسداد في الانصات لصوت الآخر
أسامة بن لادن يدعي أنه يحارب الكفار، هو وأصحابه الذين رتبوا للتفجيرات في كل مكان من العالم، ولكنه عندما يتحدث ويتكلم ويخطب في العالم عبر وسائل التقنية الحديثة يخطئ كثيرا في لغة القرآن هو ونائبه وكل أصحابه، وقارئ القرآن وحافظه والمطلع على تجويده يكون أقل الناس إضرارا باللغة (هنا لا أدعي معرفة عميقة باللغة العربية حتى إن كنت خريجا في قسم اللغة العربية وآدابها، وأيضا هذا أمر لا يعنيني كثيرا) فهل هذا يريد تدمير الكفار كما يدعي؟ إنه يدمر صلب الدين بأفعاله، بثقافته الإرهابية التدميرية، ولو كان فيه خير لكن وجه طاقته إلى فلسطين حيث الاحتلال، أو إلى الصومال حيث الدمار، إذ يمكن للمال الذي بيده أن يعيد تأسيس مجتمع صومالي جديد غير منقسم، ولكنه فضل أن تكون الصومال وغيرها قاعدة لإرهابه المتواصل عبر دعم يبدو لا محدود من قبل الأنظمة الفاسدة كنظام بوش السابق
ما أسامة بن لادن وأصحابه إلا مثال حي على الجهل الإسلامي الذي نعيشه، والذي لا يخرج من صلبه إلإ إسلام غريب عن بنيه، ضائع مشوه، وهذا ما يحدث مثلا في المجتمع الأمريكي، حيث تشكل إسلام مختلف مملوء بالخرافات والدجل في المجتمعات السوداء اللون ولم ينتج ما ينهض بالسود أو يتقدم بهم إلى الأمام.
اليوم في المجتمعات الإسلامعربية التي خرجت منها فكرة الدين الجديد، يظهر رجال يدعون معرفة أكبر بالدين عمن سواهم، مستغلين في ذلك جهل الناس وأمية المجتمع التي لم تمح تماما بأفعال الأفكار النهضوية التي أعقبت أيام الاحتلالات المتعددة، وأيام التشرد والتشتت وتمزق المجتمع إلى ما يشبه دويلات في بعض الأرجاء نتيجة كما ذكرت الاحتلال أو ضعف المجتمع اقتصاديا وعدم وجود عامل نهوض جيد كما كان الحال في شبه الجزيرة العربية
وعقب انسحاب المحتلين من غالب المنطقة العربية الإسلامية وظهور الحكومات المتنورة إلى حد بعيد، وظهور النفط في منقطة الخليج بدأ ينشأ مجتمع جديد كان كل ما لديه هو ثقافته القديمة ودينه، وبدأ يظهر وعي يحدث في جوانب المجتمع ويعمر البلاد ويعلم النشء، ومع هذه الثورة التطويرية نشأت فجوة بين الإسلام القديم الذي لم يتأقلم تماما مع معطيات العصر لأنه علق في عقول لم ترد إلا أن تظل محصورة في زمن سابق، ولم تحرر نفسها من ربقة الماضي الجميل لتنشئ حاضرا أجمل، فأخذ كثير من هؤلاء يفكرون بالعودة إليه ـ أي إلى ذلك الماضي القديم والتمسح به ـ بل بدأوا يحاولون أن يطبقوا مبدأ العودة، وكانت كلمة "حرام" أسهل الكلمات على الإطلاق لتكون جسر العبور إلى تلك الأيام السحيقة والتي ننظر إليها بإجلال واحترام ومحبة، مع أنها اليوم لا تمثلنا نحن أبناء هذا الوقت
حرام أن تفعلوا كذا وكذا، حرام أن تلبسوا الجينز، الدش، المسرح، السينما، التصوير الفوتوغرافي، الغناء، التمثيل، الرقص، التي شيرت، اللعب، الفلسفة، الـ، الـ، الـ، إلخ من قائمة الحرام
اليوم يتحدث مراهق يصلي في المسجد ويلازم الدروس التي تعطى هناك، بعد أن يتابع نشيدا في قناة طيور الجنة: بس هذا فيه موسيقى ، الموسيقى حرام!! وآخر يعود بعد صلاة الجمعة ليقول لأمه وأخته: ما تطلعن بعد اليوم من البيت إلا بصحبة محرم، انتن حريم وحرام على الحرمة إنها تطلع برا، وآخر يطلب من أخته وأمه أن يرتدين النقاب، وآخر يشتم الدول الكافرة، ويدعو على أمريكا والغرب بالويل والثبور وعلى اليهود أجمعين بدخول النار
ينشأ هؤلاء على التحريم، على التشدد في أمور جانبية في غالبها، فمثلا المرأة لم تعد اليوم كما كانت من قبل، بل بات من الملح أن تشارك في جوانب الحياة كافة كي تساعد الرجل على إنشاء مجتمع سليم.. صحيح أن وجودها قرب أطفالها أمر أساسي، ولكن هل هذه هي مهمتها اليوم فحسب؟ المتدينون المتشددون يطلبون من النساء أن يرتدين العبايات كونها أحد أركان الدين، لكن هل كانت العباءة السوداء هي ما كانت ترتديه السيدة عائشة قبل ألف وأربعمائة عام؟ المتشددون ايضا يقولون بالزواج من أخرى لأن الإسلام أحل أربعا، فهل قال لك أيها المتشدد أن تتزوج بنتا عذراء أصغر من أصغر أبنائك؟ لأنك تريد حل العنوسة؟ لأنك تفعل ما شرعه الله؟ لأنك تساهم في المجتمع بطريقة مثاليه؟ ولأنك مقتدر؟ ألا تدري أن زوجتك الأولى لها الحق في الرفض؟ أن تسألها؟ أليس من الأوجب أن تزوج أبناءك؟ أليس من المثالية أن تتزوج من فاتها فعليا قطار الزواج أو تلك المطلقة أو من يحجم الرجال عنها؟ وساعتها تكون فعلت خيرا للمجتمع؟
ذلك مثال، أسوقه لأنهم هذه الأيام يتحدثون عن المرأة، ولعله من المناسب طرح مثل هذا المثال البسيط..
وهناك أمثلة كثر أخرى، ولكنني لن أطرحها لأن الجميع قد يكونون عارفين بها، لا داعي للحديث عن مسألة الغناء والموسيقى والمسرح والسينما فالحديث فيها يفيض، وعقولهم لن تستوعب أن الفنون لها دور في رقي المجتمع، وانطلاقه نحو آفاق أوسع، وبأن الفلسفة هي التي جعلت من بغداد أسطورة في التاريخ، وبأن عود زرياب جعل قرطبة قيثارة يسمع بها الأبعدون.
لكنني سأقول بأن كثيرا من هذا التشدد وهذا التحريم لن يجر على المجتمع إلا الانغلاق والابتعاد عن العصر الذي نعيش فيه، ومن ثم نشوء أمية أكبر مما يعيش فيها الإنسان المسلم حاليا، أمية لن تجلب له إلا مزيدا من الضعف، ومزيدا من السقوط في هوة الآخر واغترابا أكثر للدين الحقيقي ومفاهيمه المتسامحة التي تعلي من قيمة الحياة

تعليقات

  1. مساء الخير يا هلال

    عزيزي هلال : استوقفتني هذه العبارة :

    " ومع هذه الثورة التطويرية نشأت فجوة بين الإسلام القديم الذي لم يتأقلم تماما مع معطيات العصر لأنه علق في عقول لم ترد إلا أن تظل محصورة في زمن سابق "

    - هل هناك إسلام قديم وإسلام حديث ؟
    - الإسلام قادر على أن يتكيف مع أي زمان ومكان ؟ وإلا لما ظل باقيا لوقتنا هذا .
    - ربما الفئة التي تحدثت عنها ليست هي الوصية عن الدين وهناك غيرهم ممن يعطون الفتيا حقها وموضعها ، وربما لأنهم متمسكون بنصوص شرعية لا يمكن أن يعملوا على إلغائها ....

    عزيزي هون عليك .. وهدئ من روعك
    فما كتبته ناتج عن موقف واحد أشعل فتيل قلمك .

    ردحذف
  2. قد يكون معك حق يا خالد في مسألة هل هناك قديم وحديث؟ ولكن ما أريد إيصاله أننا ننتشبث بالفكرة القديمة أو بالتطبيق القديم أو أيما ما كان دون مراعاة لما هو كائن اليوم.. ونطالب الناس لمصالح ما أو لجهل أو لأي شيء آخر آن يخرسوا فهذا هو الدين

    ردحذف
  3. أخي العزيز ( هلال ) ..
    أتفق مع الأخ خالد فيما كتب ..
    وأضيف :
    أنك تقع في الخطأ ذاته يا صديقي !!
    أنت تنكر على من تسميهم متشددين أنهم يرغمون المرأة على ارتداء النقاب عند الخروج من البيت ،،
    فيما يفهم من كلامك عن العباءة السوداء أنها تحول دون مشاركة المرأة للرجل في كافة نواحي الحياة من أجل إنشاء مجتمع سليم!
    ألا يعد هذا تطرفا منك وتشددا في الحكم ؟
    وبعبارة أخرى:
    ألا يمكن أن تلبس المرأة العباءة السوداء وتشارك الرجل، كما هو حاصل عندنا في كثير من المؤسسات الحكومية و الخاصة؟
    إذا كانت مطالبة المرأة بلبس العباءة السوداء تشددا في الدين ، فإن الزعم بأنها ستكون فاعلة في المجتمع إذا خلعت عباءتها تشدد ومغالاة في تسطيح الحقائق وتنميط الصور وتعليب الأحكام !!
    هذا شيء ..
    والشيء الآخر أن مصطلح ( تشدد ) فيه من الأنانية الشيء الكثير، لأن من يطلقه على الآخرين فإنما يقيسهم إلى نفسه ،
    وبعبارة أخرى:
    يرى البعض في اللحية تشددا، لأنه هو لا يقبل أن تكون له لحية، ويجده أمرا ثقيلا جدا أن ينظر إلى نفسه في المرآة يوما ليرى شعرا طويلا نابتا في ذقنه، فيتأكد لديه هذا الحكم على الآخرين الذين يجدون في اللحية جمالا لا يجدونه في حلقها، ويجدون لذة روحية ناشئة من كون إعفائها امتثالا لسنة نبوية شريفة!!
    نعم : أنا أتفق معك في الحكم بالتشدد على من يجبر الناس على إطلاق لحاهم، ولكني أضيف إليه متشددا آخر يجبر الناس على حلق لحاهم ومتشددا ثالثا ينظر إلى الناس بعين نفسه ويقيس الناس إلى ما يحبه هو دون النظر إلى حرياتهم وقناعاتهم ..

    أرجو أن تتقبل مداخلتي بصدر رحب ، و لك كل التحية

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة