ما بعد التنمية

ما زال في نظري الإعلام هو حجر الزاوية، الذي من خلاله يمكن حل كثير من الإشكاليات التي تتكاثر بشكل مرضي في بلادنا.. وقد قلت مرات عدة خلال أيام هذه الأزمة: لو كان لدينا إعلام حقيقي لكانت الأزمة أقل بكثير مما هي عليه الآن..
في هذا السياق أعيد نشر مقال كتبته قبل أكثر من عامين، عندما كان لدي عمود في جريدة الزمن وكانت حينها أكثر قدرة على تمرير آراء مثل الرأي الذي طرحته، وأعتقد أنها الآن مع كثير من الصحف بدأت تستعيد شيئا من تلك المقدرة، المقال حمل عنوان ما بعد التنمية، وكنت أشير إلى ضرورة التخلي عن الخطاب التنموي الذي كان الإعلام العماني يواصل بثه، والذي بات الآن متواريا خلف إعلام دعائي لا يهتم بالوطن والتنمية أكثر من اهتمامه بالشخوص ومصالحهم وإخفاء ما يتعرض له المجتمع من سحق وضنك..

ما بعد التنمية

أما بعد،،،

فقد مر ثمانية وثلاثون عاما على بدء النهضة العمانية الجديدة، تلك التي عدها البعض معجزة من المعجزات في المنظور التنموي، خاصة مع وضعية كوضعية البلاد التي أفنت أول خمس سنوات في ترتيب البيت العماني ودرء المشاكل عنه وإطفاء جذوة الانشقاق في الجنوب العماني، مما كلف كثيرا سيما لبلد يكتشف العالم لتوه بعد أن كان غارقا في متاهات النسيان والظلمة.

انتهت الحرب وبدأ الإنسان يبني الوطن بخبراته البسيطة التي لا تتوافق مطلقا مع اشتراطات الدخول إلى العصر الجديد، فالجهل كان مسيطرا، ومفاهيم العصور الوسطى كانت مازالت تهيمن، وأعداد البشر أيضا لا تذكر خاصة مع وجود هجرة متواصلة إلى الخارج القريب بحثا عن حياة أفضل.

وبعد ثمانية وثلاثين عاما تحققت أشياء كثيرة لابد من التأمل في كيفية تحققها، فهي لم تتحقق على أسس ذات خلفيات قوية، بل بتجارب تتلمس خطواتها الأولى معتمدة على ماض يقبع تحت الركام، وثروة لا تعرف طريقها إلى الأيادي فتظل مندسة بين جنبات الأرض المتنوعة ما بين سهل وجبل ووادٍ وبحر.

لكن بعد هذه السنوات التي مرت يحلو للكثيرين أن يتغنوا بالمعجزة وأن يمجدوها دون أن يلتفتوا إلى أنها تظل معجزة بشرية، وبأن الأيادي التي صنعتها هي أياد بشرية تخطئ وتصيب، ترتكب الحماقات وتبتكر المميزات، ولا يمكن لها أن تصير في يوم ما خالية من إنسانيتها، ولو حدث ذلك لخرجنا جميعا من إطار الكائن البشري لندخل إطارات أخرى ولا تصبح لنا وقتها فرصة لأن نقول بأن لنا أرضا يمكن أن نعمرها لأننا بالمختصر لن نكون موجودين. إن هذا الخطاب الذي يريد البعض استمراره، خاصة في الإعلام الرسمي ما هو إلا محاولة يائسة لإغلاق الأبواب أمام تساؤلات الناس والمجتمع حول ما تحقق ولماذا لم تتحقق أشياء أخرى؟ لماذا لا نعيد التساؤل حول كل المشاريع التي أقيمت ونفتح صفحة محاسبة نفس صائبة من أجل توجيه أفضل تجاه ادخار لثروة تنضب وقدرات لا نعرف كيف نفجرها!

لا ضير في امتداح المعجزات التي فجرت مع بداية النهضة، ولكن أن نستمر في التغطية بالقول إن كل هذا من منجزات النهضة دون أن نتحدث عن الأمر وفق جدول الممكن واللاممكن والربح والخسارة فذلك يعني أننا لم نستفد أبدا مما فعلناه في السنوات العشرين الأولى من حياة نهضتنا وبأننا مازلنا لا نريد الدخول إلى العصور الأولى ونحاول بخطابنا الذي تم تجاوزه في كثير من بلدان العالم التي بدأت نهضتها معنا أن نقبع خلف قضبان السنوات الغابرة المظلمة.

لقد نهضنا أليس كذلك؟ لكن هل مازلنا ننهض؟ إذا كنا كذلك فنحن كائنات كسولة لا تريد أن تستغل صحوتها وتريد فقط أن تفرقع أصابعها وتظل في غفوة الصحوة الأولى دون النظر إلى الوقت الذي يجري بلا حساب، ومن فاته الوقت دون استغلال مثالي فقد فاتته حياة بأكملها وفقد مميزات صحوته.

لذا كان الناس في حاجة لخطاب تنموي، لصوت إعلامي يقول لهم بأنهم قد أفاقوا، غير إن الزمان قد تقدم بسرعة رهيبة وبدا هذا الصوت الإعلامي غير مواكب للدم الشاب الذي يجري في العروق، بقي هو في منطقته لا يتزعزع فيما الدم الشاب يوشك على الانسكاب فيما لا جدوى منه لأنه لم يواكب بإعلام وخطاب إعلامي يقدر المرحلة الجديدة، يقدر فورة الدم الشاب ويعرف كيف يوجهها إلى الطريق الصحيح، فهو لم يعد يريد إعلاما "تنمويا" ودراما "تنموية" وصحافة "تنموية" بات يريد معرفة، يريد أن يشارك في صنع الخطاب ذاته دون وجود أوصياء يوجهونه تجاه "التنمية" فعهد التربية الوطنية أوشك على الانتهاء وعلى الجميع التنبه إلى أنهم يواجهون اليوم جيلا من الشباب لم تعد فيه المعلومة مقصورة فقط على ذلك الخطاب "التنموي".

جريدة الزمن

الاحد 20/07/2008م

تعليقات

المشاركات الشائعة