الصدمة الجميلة

ما يحدث في عمان حاليا هو لمصلحة عمان، لمستقبلها.. أعرف أن أحدهم سيقول كيف ذلك؟ والإجابة أبسط بكثير: الشباب! الشباب الذين غيروا وجه التاريخ في تونس، في مصر، وفي ليبيا الآن، هم ذاتهم من يغير الواقع والتاريخ للأجمل بإذن الله في عمان

كنت سابقا كثير التشاؤم من هكذا جيل، لا همّ له ولا أفكار واضحة ولا قدرة على التجاوب السليم مع محيطه، فهو جيل يعتمد على الثرثرة، على الكلام الكثير دون الفعل، على التستر وراء أسماء مستعارة في الإنترنت ومنتدياتها من أجل أن يقول رأيا ما في مشروع من المشاريع التي تقوم بها الحكومة، أو في قرار تقرأه على مسامعنا الحكومة.. أما الفعل فلا شيء يذكر..

اليوم أغير هذا الكلام، وأقول بأن عمان تتحول إلى الجميل، ومنذ السابع والعشرين من فبراير، هذا اليوم الذي شهد أحداث صحار، والخطأ الذي ارتكب من الطرفين: الحكومة وبعض الشباب المتظاهر، تغيرت عمان، تغيرت إلى الأجمل

الاعتصامات القائمة حاليا في مسقط وصحار وصلالة وصور، هي اعتصامات تغير المفاهيم القديمة حول قدرة الشباب على أن يغيروا واقعهم إلى الأفضل، بل الأجمل أنهم لا يطالبون بإسقاط النظام لأنهم جزء من هذا النظام، إنما يطالبون بسلة مطالب هي حقوق لهم منذ أن ولدتهم أمهاتهم

حقوق في الحياة السياسية، في العمل، في فهم ما يجري حولهم، في حقهم أن يشاركوا في أي قرار، لأن القرارات التي تصدر هي قرارات مرتبطة بهم، ليست مرتبطة بأبناء بلاد اخرى.

وإضافة إلى هذه الفكرة الجديدة والجميلة عن الشباب العماني، فإن فكرة أخرى تظهر حاليا: سقوط القبلية، البعبع الذي طالما روج في السلطنة، وبأن عمان يمكن أن تسقط في وحل القبلية مجددا، لتعيدها إلى عهود سابقة حُرِمَت السلطنة فيها من قدرتها في العبور إلى الاستقلال إلى المجد، لأن سلطة القبيلة التي لم تلغها السلطة الدينية المتمثلة في الإمامة، كانت حاضرة في المشهد بشكل جلي

وحتى مع الممارسات التي قامت بها الحكومة طوال أربعين عاما لم تفلح جيدا في إلغاء القبيلة بالشكل المثالي، بل على النقيض من ذلك الهدف، كانت تلك الممارسات تؤكد القبلية في أشكال متعددة، ولعل الاعتصامات التي تقوم اليوم في عدد من المدن العمانية ما هي إلا ثورة على الشكل القبلي الجديد الذي تشكل خلال السنوات الأربعين

الشباب المعتصمون يؤكدون الآن على أنهم كسروا المفهوم القبلي القديم، وألقوا به بعيدا، ومع كسرهم هذا كسروا أيضا الخوف الذي سيطر على الناس زمنا طويلا، في أن يقولوا ما يجول في رؤوسهم من كلام ونقد

وكما قال ذلك الشاب الذي جاء من صلالة ومن اعتصام شباب ظفار، قال أمام الشباب المعتصمين في ساحة الشعب (مدخل مجلس الشورى) بأنهم كانوا ما لا يزيد عن مائة شاب ضحك عليهم الجميع وسخر منهم ومن اعتصامهم، ومع مرور الوقت أصبحوا يصلون إلى ألف وألفين وثلاثة آلاف

الحال هو مع البقية.. العدد يزداد، عدد الذين كسروا الخوف من الأذى يزداد، وهذا هو المهم، وهذا هو الجميل

وإن كانت المطالبات هي زيادة راتب وتحسين وضع اجتماعي وتعليمي واقتصادي، فإن سقف تلك المطالب مع تأخر الحكومة في الاستجابة يزداد أيضا.. لم تعد المطالب هي خمسة ريالات توزع كإكراميات، بل بات الآن السقف هو إصلاح النظام، وردع الفساد، ومحاكمة المفسدين.. باتوا الآن يطلبون وضوحا في الرؤية، دستورا واضحا، قانونا بنقاط مفهومة ومعلومة وواضحة يستظل الجميع تحته، ويسترشد به في حياته كلها.

هكذا باتت السقف يمتد إلى مطالب المشاركة السياسية، ومعرفة القرار وإقراره قبل النطق به، هكذا تتحول عمان إلى مدنية حقيقية لا شكلية، وهذا هو المهم.

لكن هل تستجيب الحكومة؟ هل يتخلى الحرس القديم عن سياسة "الأبوة" التي يواصلون إقناع هؤلاء الشباب بها؟

للأسف، لا تعرف الحكومة حاليا ـ بالأخص جهازها الأمني وجهازها الإعلامي ـ سوى أن تمارس ما تتلمذت عليه من المدرسة المصرية في التعامل مع هكذا أزمات

فأجهزة الأمن أخذت تنشر أن الشغب والتخريب هو صادر عن جهات خارجية ـ إمارة أبو ظبي بالتحديد ـ وكادت أن تنجح في دعايتها المغرضة تجاه الأخوة في الإمارات، أبناء العمومة والخؤولة، الأخوة والأصدقاء والأهل والأقارب، وليس النظام الذي يحكمهم.. لكنهم فشلوا إلى حد كبير في تلك الدعاية التي لا يمكن وصفها إلا بأنها قذرة..

ثم واصل هذا الجهاز مسيرته في التغبية عبر تجييش الناس في مسيرات الولاء والعرفان التي قسمت البلاد إلى نصفين، مع أن المعتصمين والمتظاهرين هم أيضا مؤيدون للسلطان، ولا أحد منهم فكر أن اعتصامه هو ضد السلطان.. كلهم يرددون أنهم مع السلطان، فلماذا تظهر مسيرات ولاء وعرفان وكأنما هناك صفين من الناس: صف مع، وصف ضد؟

كانت هذه سقطة أخرى كبيرة للأمن، وكأنهم لا يتعلمون من ممارسات النظام المصري البائد، ويصرون على أن تجاربهم هذه ستنجح في النهاية، فهل خفتت الاعتصامات؟ لم تخفت، بل زادت.

ما زادها أكثر هو الخطاب الإعلامي الأحادي الذي يصر على أن كل شيء بخير، وبأن الأمور تمشي على خير ما يرام، وبأن لا تظاهرات ولا اعتصامات لها مطالب، سوى تلك التي ترفع شعار: كلنا مع السلطان.

للأسف ما يفعله الإعلام العماني (نشرة العلاقات العامة) هو إساءة اخرى للبلد، حيث توسيع رقعة الخلاف في أوساط المجتمع، وإغفال أصحاب الحق وكأنهم ليسوا جزءا من نسيجه ولا حقوق لهم ولا يحزنون!

وبرغم محاولة التوزان التي ظهرت في حلقة هنا عمان مساء الأربعاء الماضي التي أبداها جهاز التلفزيون العماني عندما خفف نبرته التي هي ليست أقل من عدائية تجاه المعتصمين، واستضاف الدكتور حسين العبري وترك المجال له ليتحدث ـ حديثا جميلا في الواقع يستحق عليه حسين كل الشكر والتحية ـ برغم تلك المحاولة إلا ان النظرة ما تزال حتى اللحظة هي نظرة ريبة بل نظرة ازدراء لهذا الجهاز الإعلامي، لتكون شبكة المعلومات الدولية بمنتدياتها وبشبكات التواصل الاجتماعي فيها هي جهاز الإعلام الحقيقي للمعتصمين

وإذا كان البعض يقول بأن الشباب، جيل الشباب الحالي، غير قادر على تحمل المسئوليات ولا يملك أفكارا خلاقة، فماذا يمكن أن نسمي قدرتهم على التنظيم والترتيب الجيد في اعتصاماتهم السلمية؟ ماذا يمكن أن نسمي تشكيلهم لذلك الحراك الإعلامي والثقافي في شبكة المعلومات الدولية؟ في الفيسبوك؟ في الحارة العمانية؟ في سبلة عمان؟

ألم أقل لكم بأن أقنعة كثيرة سقطت؟ وبأن التاريخ يتغير؟ وبأن عمان تمتلك كفاءات قادرة على إدارة البلد؟ وبأن البلاد فيها من يوازي "مكي" و"مقبول" و"مالك" و"الرواس" و"علوي" ووو كل الأسماء التي ولدنا ونحن لا نعرف غيرها في الحكومة إلا فيما ندر؟

فقط تتاح الفرصة لهؤلاء بعيدا عن التعيينات القائمة على حسابات قبلية ومذهبية وحسابات غبية، والأصلح منهم هو من سيخدم البلاد وشعب عمان المجيد.

إذن كنا في حاجة إلى هذا الأمر كي نغير وجهة التاريخ في عمان، وكي نضمن المستقبل، ونطفئ الجمر العائم تحت الرماد.. كنا بحاجة لهذه الصدمة الجميلة، فشكرا لكل الشباب الذين تآزروا من اجل بلادهم كي يقودوها إلى النور..

تعليقات

  1. ما يحدث - كما ذكرت - هو لخير عمان, فحين نقول كفى فسادا وسلبا للحقوق, فهذا يعني اننا نهتم لامربلدنا ومستقبله.

    شكرا على ما كتبت وبارك الله فيك

    ردحذف
  2. الحمد لله ان الحق ظهر و ان الباطل زهق "إن الباطل كان زهوقا" و لتنعم عمان بنعمة الحرية و ترى الامور بالمنظور الحقيقي لا المنظور الذي يوجهه لنا الغوغاء و المفسدون

    ردحذف
  3. بارك الله فيك أخي هلال ... وكثر من أمثالك المعتصمين بالحق وبحبل الله المتين .. حبل الوحدة والمسؤولية الوطنية الحقيقية تجاه هذا الوطن والقائد
    سيف الرمضاني

    ردحذف
  4. من حمد : شكرا ً’ عزيزي على كل الكلمات الطيبة النابعة من قلبك المحب لعمان الخير

    الاوضاع تبشر بالخير يا اخي ..... والقادم افضل ان شاء الله بجهود الشباب الابطال

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة