الإجابة لديكم!

منذ السابع والعشرين من فبراير الماضي والبلاد تعيش أحداثا مغايرة، أحداثا غيرت مجرى الحياة في عُمان، فلم تعد كما كانت.. هذا هو الواقع الحقيقي الذي نعيشه في بلادنا، وهذا الأمر برمته كان نتيجة سنوات من عدم الحوار والنقد الذاتي، عدم طرح الإشكاليات بشكل شفاف ومتوازن، في إعلام لا نريده حرا كما يردد البعض ولكننا نريده إعلاما متوازنا قادرا على طرح الإشكاليات ومناقشتها نقاشا مستفيضا وبلغة إعلامية محترفة تسعى إلى الموضوعية وجعل الهم الوطني هو الأساس، وليست رغبات البعض أو مشاعرهم تجاه ما يطرح.

وللأسف الشديد كان هذا الإعلام مغلقا الباب أمام هذا الحوار ولا يحاول أبدا أن يكون في منطقة منتصف، بل كان يتراجع، يتراجع إلى أن بات سقفه سقف جحر ضيق لا يتسع لفأر جائع

قد رددت هذا الكلام كثيرا، وقلت بأن الأزمة التي واجهت البلاد في الآونة الأخيرة كان الإعلام سببا رئيسيا فيها، سببا فاعلا في جعل الأزمة أكثر تفاقما حتى جاء الوقت الذي وصل الاحتقان حد الانفجار، ولم يكن الشباب في حاجة إلى أكثر من عود ثقاب كي ينفجروا! خاصة في ظل تجاهل كبير لهذا القطاع الذي يشكل الغالبية من سكان البلاد.

حسنا.. حدثت الاعتصامات، وارتفع سقف المطالب التي ضمنت في العريضة التي خرجت بها المسيرة الخضراء الثانية في السابع عشر من فبراير الماضي، والتي رفعت إلى المقام السامي بعد ذلك.. ارتفع السقف لكي لا يعود مجرد مطالبات بتحسين أوضاع اقتصادية واجتماعية ودستورية، بل باتت المطالب أكبر من هذا السقف، انتقلت لمرحلة أعلى، حيث ضرورة تغيير كافة الحكومة، وإقالة أسماء بعينها، على رأسها علي بن ماجد المعمري وزير المكتب السلطاني السابق، ومالك بن سليمان المعمري المفتش العام للشرطة والجمارك سابقا، وعلي بن حمود وزير الديوان، واحمد بن عبد النبي مكي نائب رئيس مجلس المالية وموارد الطاقة ووزير الاقتصاد والمشرف على وزارة المالية، ومقبول بن علي سلطان وزير التجارة والصناعة ثم وزير النقل والاتصالات سابقا

هذه الأسماء التي أذكرها الآن هي الأسماء التي في رأس قائمة المطالب، المطالب التي رفعت السقف إلى أعلى، وجعلت هؤلاء مطلبا شعبيا ينبغي تنفيذه، إضافة إلى "تنظيف" الحكومة من الفساد، ومحاكمة رموزه ـ وأغلب الأسماء التي طرحتُ باتت في خانة المفسدين وعلى رأس المطلوب مساءلتهم الآن ـ

حسنا.. في ظني لم يكن أحد يتوقع تماما أن يأتي السلطان فيعفي كلا من علي بن ماجد من منصبه، وهو الرجل الأهم في عمان من بعد السلطان، ولم يكن أحد يتوقع أن يقال رجل كمكي وهو ذلك "الأخطبوط" الاقتصادي الضخم في البلاد

ربما توقع الكثيرون أن يقال مقبول، أن يذهب علي بن حمود، أن يغير السلطان تركيبة حكومته لتشمل أسماء جديدة غير التي كانت، ولكن أن يتخلى السلطان عن رجل بقامة علي بن ماجد؛ فإني شخصيا لم أتصور أن يحدث ذلك

إلا أن السلطان كان صاحب المفاجآت الحقيقية، عندما أعلن عن تعيين اسم جديد يحل محل علي بن ماجد، واسم آخر يحل محل علي بن حمود أيضا، في مكانين يعدان من أهم الأماكن في الحكومة العمانية..

لقد بدأ السلطان لحظتها بالتغيير، والاستجابة لمطالبات "الشعب" فكان أن بدأ بقمة الهرم، إن افترضنا أن رأس الهرم هو هذا الاسمان: علي بن ماجد وعلي بن حمود، ثم بعد أيام في الأسبوع ذاته جاء السلطان ـ حفظه الله ورعاه ـ وأكد على أن مطالب الشعب مجابة تماما، فأعاد تشكيل الحكومة ليخرج منها كل الأسماء التي طالب الشعب بإقالتها منذ زمن طويل، فرحل أحمد عبد النبي مكي ورحل مقبول، ورحل وزراء كثر حل بديل عنهم وزراء "الشعب" القادمون من مجلس الشورى حيث لا حجة لدى الكثيرين بأن الشعب لا يحكم، فهؤلاء وصلوا لمجلس الشورى عن طريق الاقتراع، أصوات الناس هي ما أوصلهم كي يكونوا هناك، حتى لو قال أحدهم بأن انتخابات مجلس الشورى لعبة تشترى فيها الأصوات، يظل الواقع الفعلي يقول بأن هذا العضو أو ذاك أتى به الناس! (سيتضح الآن أهمية أن نفكر جليا في أهمية أن نقدم أصواتنا لمن يستحق، لا للقبيلة والمحسوبيات، وهذا في ظني أهم مكافحة للفساد، الفساد الذي لا دخل للحكومات فيه)

يومها تأكدت أننا في عمان في ألف خير ما دام هذا الرجل العظيم قابوس يحكم هذه البلاد، تأكدت أن التغيير ليس قطع شطرنج وبأن السلطان قابوس يهمه بالدرجة الأولى هذا الشعب، وهذي البلاد.. فرحت، وتمنيت لحظتها لو نخرج جميعا في مسيرة ترفع شعارا واحدا: نحن كلنا يا قابوس نحبك، لك الولاء ولك كل الحب.. ذهبت إلى "ساحة الشعب" فرأيت أن الناس ما زالوا معتصمين رغم سماعهم الأخبار، رأيت "الخطباء" المفوهين ما زالوا يتحدثون عن الفساد وعن الوزراء الفاسدين، وعن أن المطالبات لم تتحقق كاملة

قلت بصوت عالٍ: ألم نرفع جميعا شعار: يدا بيد مع السلطان؟ فلماذا عندما مد هذا الرجل يده لنا نكصنا أيادينا وقلنا ما زلنا نطالب ونطالب؟

لكنني تمهلت، قلت ربما هم أصحاب حق، ووصلني أنهم ينادون بالدستور فهو الضمانة الأساسية، ولم يكد يمضي أسبوع حتى أعلن جلالته مرسوما يقضي بمنح مجلس عمان صلاحيات تشريعية ـ ليؤكد أن منح مجلس الشورى صلاحيات لم يكن مجرد كلام في الهواء ـ ومرسوما آخر بإجراء تعديلات في النظام الأساسي للدولة ـ النظام هي الكلمة التي تفسر الدستور في المعاجم اللغوية ـ في غضون ثلاثين يوما من ذلك الإعلان

وأيضا لم يكن أحد يتوقع أن يقوم السلطان بكل ذلك في مدة زمنية قياسية، وكأن الشعب يرفع صوته ليصل إلى السلطان فيقول لهم السلطان بكل حب: لكم ما طلبتم

إلا أن الاعتصامات ما تزال متواصلة، فمالك بن سليمان ما زال مفتشا عاما للشرطة والجمارك، وبرغم تسرب خبر تغييره قبل أن يغير السلطان الوزارء السابقين إلا أن الناس كانت تنتظر إعلان المرسوم، وجاء السلطان وقال كلمته أيضا ومجددا أثبتت الكلمة أن هذا السلطان يحب شعبه

ومع ذلك ما زالوا يعتصمون!

لا أدري الآن ما هو المراد من هذا الاعتصام؟ لا أدري إن كنا صادقين تماما في أقوالنا وشعاراتنا التي رفعناها قبل التغييرات التي أحدثها السلطان استجابة للشعبه، شعاراتنا وأقوالنا بأنا مع السلطان! هل نحن فعلا مع السلطان؟ مع قابوس؟ معه في التغيير ومحاربة الفساد والارتقاء بعمان؟ أم أننا نثرثر ونقول ما لا نؤمن به في أعماقنا؟

لو أن شعبا آخر غير عمان خرج حكامهم وقالوا لهم: مطالبكم مجابة بهذه الصورة لرفع الناس ذلك الحاكم على أكتافهم وبكوا طويلا لأن لديهم ذلك الحاكم، ولا أظن أن قابوس رجل يتكرر في التاريخ، رجل يقول لشعبه: سأتخلى عن كافة الرفاق الذين كانوا معي طوال هذه الرحلة من أجلكم! لا أظن أن أحدا يفعلها، لم يفعلها لا زين العابدين ولا بن مبارك ولا القذافي ولا بن عبد الله صالح ولا حتى ملك البحرين، وقابوس فعلها واختاركم أيها العمانيون، اختار ما تريدون، فلماذا الآن لا تتركون له الفرصة كي يعيد البناء وفق المنهج الجديد الذي أردتموه؟

طبعا لا أدعوكم لأن تهللوا وتكبروا، ولكنني أدعوكم أن تشمروا عن أياديكم من أجل هذه البلاد، من أجل عمان، ومن أجل كلمة أعلنتموها من أول تظاهرة وأول اعتصام: كلنا مع السلطان..

من أجل المستقبل، مستقبل الغبيراء اتركوا المرحلة الماضية واستفيدوا منها في بناء المرحلة المقبلة يدا بيد مع سلطانكم، فالفرصة الآن مواتية لذلك.

وإن كنتم تحاربون الفساد فحاربوه في أنفسكم قبل أن تطالبوا بصلب الآخرين الذين كنتم تعرضون بهم وتشتمونهم صراحة لأنكم ترون أنهم أس الفساد في البلاد

هل تريدون حقا أن تساءلوهم: من أين لكم هذا؟ أعتقد أنه من الواجب ومن الأفضل أن تساءلوا السلطان ذاته: لماذا منحتهم كل هذا؟ هل تودون حقا أن "تحجروا" عليهم؟ إذن عليكم بالسلطان الذي تحبونه كثيرا أن تحاسبوه قبل أن تحاسبوا الأسماء التي وردت أعلاه..

وإنه لشيء مخزٍ أن نتحول إلى ألسنة تشتم وتسب وتكيل الاتهامات دون أن يكون هناك من مستند واحد ضد هؤلاء الناس الذين أدرك تماما ويدرك كثيرون منكم أنهم خدموا عمان، خدموا السلطان، وكانوا يبنون هذا الوطن في اللحظة التي لم يكن فيها الوطن "وطنا"

صحيح أن هناك فشل، أن هناك أخطاء جسام، أن هناك فساد وفسّاد، وأن كثيرا من الأخطاء لم تكن مجرد اجتهادات يمكن أن يثاب عليها المرء بل كانت أخطاء مقصودة ومبيتة، ولكن يظل أغلب هؤلاء خدّاما لهذا الوطن ولسلطان هذا الوطن..

وكما قلت لكم: إن كنتم تحاربون الفساد فابدأوا بأنفسكم، ليبدأ كل واحد منا بنفسه: ألم نمارس جميعا الفساد؟ ولو بشكل ضئيل؟ ألا نقوم بالفساد الآن عندما نهمل الحياة بتفاصيلها المتنوعة من أجل الوقوف اعتصاما كي نبث فكرة بعينها؟ (ومرة أخرى لا أدعوكم لترك الاعتصامات، ولكن أدعوكم للتفكير الجاد والعميق فيما فعله السلطان إن كان يحقق مطالبنا فعلا، أم لا)

في الوقت ذاته: لنكف عن لغة التخوين التي يمارسها بعضنا ضد بعض، وإن كنا ننتقد التهميش وننتقد احتكار الرؤية في شكل واحد، وننتقد الممارسة الإعلامية الحكومية التي لم تتح الفرصة للصوت الآخر أن يظهر، وللصوت المخالف أن يخرج، فإنه أولى بنا أن نتوقف عن هذه اللغة العدائية بعضنا ضد بعض.

لا يعني أن أكون مخالفا لناصر البدري مثلا أو بسمة الكيومي أو باسمة الراجحي أو طيبة المعولي أو سعيد الهاشمي أو عبد الله الريامي أن أشن حملة أعتبرها شخصيا ساقطة وسوقية وبذيئة ولا تمثل إلا وجها سيئا يختفي خلف وجوهنا الظاهرة

نعم، أنا أختلف مع كثير من أفكار هؤلاء الناس كما أختلف مع منهم في الضد، وقد أتفق معهم في أفكار، لكن اختلافي مع أي منهم لا يعني إقامة لغة تشويه كالتي يقوم بها متمترسون خلف الأسماء المستعارة في المنتديات

وأيضا أن أتوقف في لحظة ما من تاريخي عن الاعتصام والذهاب إلى فعاليات "الخطب" المتداولة في ساحة الشعب وخلافها لا يعني أن الحكومة دفعت لي وبأني "بعت" القضية كما سماها البعض

لا أنا ولا عائشة السيفية ولا نبهان الحنشي ولا معاوية، هؤلاء الذين كانت مدوناتهم سجالا واضحا ضد ممارسات لم يتجرأ كثيرون على أن يرفع صوتا ولو خجولا كي ينبشها

إضافة إلى أنها ليست معركة نتحارب فيها، إنما هو صوت آخر علينا أن نتعود على سماعه، على الاختلاف معه، وتقبله حتى إن لم يرق لنا.

وصدقوني لم يتغير هؤلاء كما أعرف، وعلى الأقل أقول عن نفسي بأني لم أتحول، ولكن منطق الأمور يقتضي أن أقول ما ينبغي قوله: السلطان فعل ما نريد، بنسبة عالية جدا، وما بقي قليل مقارنة بما تحقق، ولا يعني عدم الاعتصام أني اكتفيت بذلك الشكل البراق من "التغيير" أو كما قال أحدهم بأننا كنا نريد "التغيير" كشكل فقط.. لا، الأمر ليس كذلك، إني رأيت مباشرة في العمق، عندما قام السلطان بحركة التغيير وآمنت به.. والأيام هي الفيصل في ذلك، ومن لم يتغير من "الشلة" القديمة كوزير الإعلام ووكيله، ووزيرة التعليم العالي، ووزير العدل، والمدعي العام وآخرين؛ سيأتي الدور عليهم! وحتى إن لم يأت على كل هؤلاء فإني مؤمن أن التغيير سيتواصل، والسلطان أراه يقود مرحلة التغيير هذه بكل حنكة واقتدار، فلماذا لا أفسح له المجال قليلا؟ هذا هو الواجب، وهذا هو المنطق الذي أراه ورآه آخرون.

وإن كنا نريد التغيير أن يتواصل حقا فلنبدأ بأنفسنا الآن، لنبدأ في صياغة جديدة لحياتنا، لحياة أبنائنا، أحفادنا.. لنبدأ بتغيير طرق تفكيرنا القديمة، ولنسمح للمدنية أن تدخل في عمق فكرنا، ولدينا الفرصة لذلك.. صدقوني نحن نملك تلك الفرصة، لكن هل نستغلها بشكل حقيقي وواضح؟ الإجابة لديكم

تعليقات

  1. تنقط عسل الاستاذ هلال.. سلمت أناملك..
    تم إطلاق شرارة الإصلاح و التغيير و الإصلاح الذي تحقق بعد تلك الشرارة كان في زمن قياسي جدا.. لكن يبدو أن المعتصمين لا يدركون أن جلالة السلطان هو بشر مثلهم لا يستطيع أن يدفع عجلة التغيير لوحده.. كأنهم ينتظرون مائدة من السماء

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة