عام التغيير
يبدو أن هذا العام هو عام التغيير، ليس في تونس، ليس في مصر، ليس في الجزائر، ولا في لبنان أو الأردن أو المغرب، بل أيضا في دول كانت سمعتها أنها كروش مليئة وعقول فارغة.. دول الخليج، دول مجلس التعاون، دول الثراء كما يروج عنهم في كل العالم، فيما شريط الفقر يكوي كثيرين سواء المملكة العربية السعودية أكبر مصدر للنفط، أو في الكويت أو في الإمارات.. الإمارات، إمارات ساحل عمان المتصالح، التي يحسدها كثير منا لا بسبب الثراء فحسب، بل بسبب أنهم شكلوا دولة تعد اليوم ضمن دول المقدمة من حيث الرخاء، من حيث الدخل، من حيث قدرتهم على تعمير الصحراء وجعلها أرضا خضراء، موغلة في المدنية والحضارة.. ولا أدل على ذلك من عاصمتها الجميلة أبو ظبي، أو عاصمتها الاقتصادية دبي، دبي التي ما إن تدخلها، حتى تدخل بلادا غير عربية، حيث جمال البناء، حيث الطفرة المعمارية والتقنية والبهاء الذي تجلبه المجمعات الترفيهية والشوارع المنظمة والجميلة.. دولة عصرية جميلة بكل امتياز بها من المميزات الإيجابية ما يجعلها الأكثر تحضرا في دول مجلس التعاون، إلا أن هذا التحضر ليس له مقياس حقيقي، ولذلك فإن وراء هذا القناع الحضاري، وراء هذا اللباس الجميل، وراء هذه المباني العظيمة، وراء هذا النظام الحلو، نجد عقولا مغلقة، نجد اغترابا كبيرا، نجد فقرا كما أسلفت أول الأمر، حتى في دبي ذاتها، حتى في العاصمة أبو ظبي التي منذ قبيل وفاة الشيخ الكبير، زايد رحمة الله عليه، وهي تسعى إلى أن تكون عاصمة مميزة جدا، ولعلنا لا ننكر أفكارا رائدة كمدينة مصدر..
هذا أمر جيد، ولكن أن تظل العقول محبوسة في المناطق القديمة فإنك يا "بو زيد ما غزيت" ولذلك فإن التغيير حاصل، على الأقل في المقولات التي كانت تروج بأن دول مجلس التعاون هي دول الوحدة العربية الحقيقية، فعلاوة على خلية التجسس التي كشفت مؤخرا، ودار حولها كلام كثير سواء من قبل الإعلان، أو من بعد إعلانها رسميا، توجد خلافات بين العربية المتحدة والمملكة العربية.. كل هذا يحدث بعد غياب الرجل الذي كنا نظن بأنه رجل جمال وخيول وبداوة, ولم ندرك إلا الآن بأنه كان أحد حكماء عصره
في الجهة المقابلة، خلف الشباك التي شيدتها الدولة المجاورة، يتململ الشباب العماني من أوضاعهم، ليس للدرجة التي تطالب برحيل الرجل الأول، لكن للحد الذي يدل على أن هذا الجيل تعب من تكلس الفكر الحكومي تجاهه، وما فعله المدرسون مؤخرا خير برهان على ضرورة التغيير في السلطنة، التغيير الإيجابي.. وكما قلت في تدوينة سابقة بأن المتهمين بالخيانة العظمى أعضاء الخلية التجسسية، ليسوا في غالبهم معتازين ماليا كي يبيعوا أرواحهم بل هو الخوف من الغد الغامض، حيث استشرى الفساد، ولا عقاب واضح للفاسدين، هذا إن استطاع أحدنا أن يكشف ذلك الفساد..
فوق هذا وذاك، الشباب العماني ما عاد يتحمل وضعه السيء، حيث قلة الوظائف، حيث قلة الفرص الدراسية والتعليمية، حيث ضعف مؤسساته الإعلامية والتعليمية والثقافية، وعدم مقدرته كشباب يمتلك القدرات المتعددة على إبراز قدراته، وتفجيرها فيما هو جيد يخدم البلد وأصحاب البلد..
اعتصم المدرسون ولهم الحق في ذلك، وتظاهروا مظاهرات غاية في التمدن، حيث ذهبوا إلى أعمالهم ووقعوا على دفاتر الحضور والغياب ثم قالوا لن نزاول أعمالنا حتى يرى في أمرنا.. ومطالبهم ليست تغيير وزير أو مدير مدرسة، بل أبسط من ذلك، أبسط بكثير.. حيث ضرورة وجود نقابة تمثلهم، حيث ضرورة أن يعاملوا كما ينبغي لمعلم أن يعامل: بعض الاحترام لا كله إن لم نكن قادرين على كله، راتب جيد بمقدار ما يأخذ موظف في وزارة أخرى، راتب لا يجعل المعلم يفكر في عمل إضافي خاص، بأن يدخل في سباق من أجل الكسب المادي الذي ربما يودي به إلى أماكن معتمة، راتب يجعله يفكر في مهنته العظيمة، فتربية الأجيال تحتاج إلى كثير من الإخلاص والدقة، وليس القضاة أو الولاة بمفضلين كي ينالوا الهبات والرواتب العليا من أجل أن يتم كسب قلوبهم، لا هم ولا قيادات الأمن وجنرالاته الذين نكتشف اليوم وبعد كل هذه السنوات من المال الوفير الذي يضخ في جيوبهم أن بعضهم لا يراهن على وطنه، بل يراهن على الولاءات الجديدة البراقة التي قد تكون غالبا غير دائمة، كما هو الحال مع وضعية الخلية التجسسية.
صحيح أنني أصر على أن كثيرا من هؤلاء المدرسين ليسوا أهلا لمهنة كالتدريس، لا من ناحية الكفاءة العملية والثقافية، ولا من ناحية الكفاءة الأخلاقية التي تجعل من أي مدرس هو المثال الذي يحبه تلميذه
وهذه النقطة أيضا واحدة من أخطاء التخطيط من قبل الحكومة، التي أرادت أن تعمن مهنة التدريس وبأن تضع أي عماني أيا كان في هذا المكان، وبعد أن دب الفساد في أوصال المؤسسة التدريسية مرة أخرى تعالج الوزارة الموقرة الأمر بأسلوب أشد وطأة على المجتمع، حتى وإن اتفقت معه، إلا أن به كثيرا من السلبيات التي ستراكم إشكاليات المؤسسة التربوية أكثر فأكثر.
أعود فأقول: ليس المدرسون وحدهم من يستاء، فهناك الكثيرون ممن هم مصابون بحالة من الإحباط جراء الوضع الذي تعيشه السلطنة، جيل من الشباب لم يعد يجد نفسه، جيل فاقد للأمل، لأنه طموحاته تتكسر على أرضية الواقع الذي جعلهم لا يجدون فرصا كافية، لا في العمل ولا في العلم
وحتى لا يصبح الوضع سيئا أكثر مقارنة بما هو حاصل في دول عروبية كثيرة، على الحكومة أن تعيد نظرها تجاه كثير من القضايا التي لا تثار، أولها التعليم، وليس آخرها الإعلام الذي لا يعكس صورة واحدة فقط.. إعلام يحتاج إلى إعادة هيكلة حقيقية، لا أن يكون نشرة علاقات عامة (كما هو الحال مع الإعلام المصري في الأزمة الحالية ونظرته للثورة وحتى قبل الثورة) تحاول أن تنفذ أجندات المؤسسات الحكومية في رسم صور خاصة بها بلا أي خدوش.. وللأسف نشرة العلاقات العامة هذه ليست حكرا على الإعلام الممول من المؤسسة الحكومية، بل أيضا ينطبق وبشكل أكثر وضوحا على الإعلام الممول من الجيوب الخاصة. وحتى هذه اللحظة يبدو الإعلام الرسمي أفضل حالا من ذلك الخاص
لا أحد يريد لوطنه أن يضيع، أو أن يسقط في مستنقع من الضباب والسواد وفقدان الأمل، بل الوضع الطبيعي أن كل مواطن يريد النظر بكثير من الجمال لوطنه، بكثير من التفاؤل والحب..
تعليقات
إرسال تعليق