يا عائشة: ليست الحكومة وحدها السبب!

أخيرا صدر القرار المنتظر منذ مدة ورفعت الأجور الخاصة بالعاملين في القطاع الخاص العماني، رفع الحد الأدنى لها ليكون مائتي ريال عوضا عن مائة وأربعين ريالا عمانيا أعلن عنها قبل ثلاث سنوات وفق ما أتذكر، بعدما كانت لا تزيد فعليا عن المائة والعشرين وربما المائة ريال..

مئتا ريال قد تحدثان فرقا في حياة عامل يعمل ستة أيام في الأسبوع بواقع ثمان ساعات إلى عشر، وعليه أن يعود إلى منزله لكي يعيل أسرة معدمة لا تجد كوة في جدارها الأسود إلا عبر ذلك الفتى الذي قدر له أن يحصل على شهادة تعليم عام (الثانوية العامة فيما سبق) ولأن، ربما، نسبته لم تؤهله لأن يتم تعليمه العالي كان عليه أن يلجأ إلى العمل، ولم يعد جهاز الجيش أو الشرطة سهلا كما الأيام الخوالي كي ينعم بفرصة العمل في أحد تشكيلات هذين القطاعين..

عليه أن يعيل والديه واخوته الصغار، وألا يفكر كثيرا في الارتباط، لأن الارتباط بحد ذاته كارثة أخرى، فمن ذا الذي سيدفع عشرة آلاف ريال مهرا لفتاة وهو لا براتب لا يزيد عن المائتين؟ هذا بخلاف عدة العرس وتجهيزاته. وهل سترضى هذه الفتاة وأهلها قبلها، بأن تتشارك اليوم غرفة بسقف من الألمنيوم ضيقة وغير مهيأة تماما للحياة، تتشاركها مع شابها وأخوته وذويه؟

إنها ليست مبالغة بكل تأكيد، ولو طفنا البلاد بطولها وعرضها سنجد حالات كثيرة تفتح عيونها على ما هو أسوأ بكثير من هذا الذي طرحته.

لكن القرار الجديد ربما خفف بعضا من هذا الوجع، وأعطى ذلك الشاب فرصة اخرى لحياة لا أقول بأنها في مستوى الطموح الذي قد يطمح إليه، بل في مستوى الإمكان، والأهم هو الرضا، فالرضا هو المسمار الذي لابد أن نتذكره كي لا نصاب بالصداع المزمن!

شباب كثر هم الذي يعيشون اليوم على أقل من مائتي ريال، وليست كل الأسباب التي أودت بهم إلى هاتين المائتين أو أقل هي بيد المؤسسة الحكومية (صحيح أنني ما زلت أقول بأن السياسة التي تتخذها الحكومة، السياسة السلبية، هي واحدة من الأسباب، خاصة فيما يتعلق بحق التعليم، بضرورة أن يكون هؤلاء الشباب متعلمون وحاصلون على فرص الدراسة حتى بعد الشهادة العامة، لا أن يتوقف حظهم عند لحظة حصولهم على هذه الشهادة التي لا تقدم ولا تغني من جوع.. السلبية في أنها لم تعمد إلى تصحيح المسار، إلى إيجاد مؤسسات تعليمية قادرة على الاستيعاب، استيعاب غالب الأعداد المتخرجة سنويا، لا أن تكون الجامعة الوحيدة تستقبل ما لا يزيد عن ثلاثة آلاف، وتتوزع السبعة أو العشرة آلاف الأخرى على كليات تطبيقية ومعاهد تمريض وكليات عسكرية، وكليات تقنية ومنح في جامعات وكليات لا تلبي الطموح العلمي بل هي أقل من مدارس تمنح بعد شفط المال شهادة كرتونية بلا أي قيمة، وفيما البقية الغالبة عليها أن تذهب إلى المساجد تصلي وتنتظر الفرج) بل هي من ثقافة تتكاثر وتتوالد عبر الزمان.. ثقافة تنظر إلى أن العلم على أنه بوابة عمل لا أكثر، دون أن يلتفت هؤلاء إلى أن العلم ليس مرتبطا بالعمل وحده، بل العمل يرتبط بالمهارات وليس العلم فحسب، المهارات هي التي تحدد إن كان المرء سيجد عملا جيدا أم لا، مهارات لغوية، مهارات تقنية وحرفية، مهارات تسويقية وفنية، فأي شهادة هذه التي ستلبي كل هذه المتطلبات؟

في تجربتي الشخصية، وهي أيضا تجارب أناس آخرين، لم تكن الشهادة هي أساس العمل، بل كانت المهارات، ولا أدعي أني كنت ماهرا فيما أردت تماما، ولكن كانت هناك بوادر قدرة على القيام به على الوجه المطلوب.. أتذكر أنني تخرجت بشهادة بكالوريوس اللغة العربية وآدابها، وحتى الآن أقول بأني كنت أدرس لا لكي أعمل، بل لكي أستمتع، مع أنني تخصصت تخصصا كنت فاشلا فيه إلى حد ما، ولكنني أردت خوض المغامرة، والغد القادم ستكون له طرقه التي أكسب من خلالها العمل.. هذا ما حصل، فحتى لحظة التعيين لم يسألني أحد عن شهادتي، عن تخصصي، كان المهم أن أمتلك أدوات معينة من اجل التعيين.. ولا أنكر أن ذلك الوقت كان مختلفا إلى حد ما، وبأن تجربتي ليست هي المقياس. مع ذلك أؤمن بأن الشهادة ليست هي المدخل الوحيد للعمل، بل هي المهارات والقدرات الفردية التي يمتلكها كل واحد منا، ويمكن مع الوقت أن يطورها

ما المانع أن يشجع الأهالي أبناءهم على تنمية القدرات الإبداعية كالفنون مثلا؟ الرسم والتصوير والتشكيل وحتى الكتابة؟ إنهم يرون أن مثل هذه الإمكانيات ما هي إلا تضييع للوقت، تضييع للجهد، مع أنها تكسب المرء قدرات تمنحهم الفرصة الجيدة للحصول على عمل جيد في المستقبل، بل تمنحهم القدرة على الاستقلال إن اضطرتهم الظروف إلى أن لا يجدوا عملا مناسبا.

لذا يا عائشة لا ينبغي أن نرمي كل شيء على الحكومة في أن توفر فرص عمل لخريجي الجامعات بالتحديد، فهؤلاء لا ينبغي لهم أن يكونوا كمن حرم فرصة إتمام الدراسة وظل بشهادة عامة فقط، وعليه أن يرضى بأن يكون عاملا في مصنع أو محطة بنزين أو في شركة خاصة.. إنهم وجدوا الفرصة السانحة عندما دخلوا الجامعات، وأتموا تعليمهم، فعار عليهم أن يتحججوا بعدم وجود شواغر وفرص عمل، لأن أياديهم تستيطع صناعة الفارق بينهم وبين خريجي الشهادة العامة، إذ ما فائدة السنوات الأربع أو الخمس التي قضوها في الجامعات إن لم يستطيعوا أن يشكلوا فارقا؟

لقد درست ودرس أصدقاء لي في كليات إنسانية وفي الحقيقة لم ننتظر زمنا طويلا حتى نجد فرصنا، بل إنني على عكس المتوقع كنت أرفض الفرص التي تأتي كي أشكل فرصتي الخاصة، وهذا ما فعله آخرون، من كليات ندرك تماما أن مخرجاتها ستعاني كثيرا كالعلوم الزراعية والبحرية، ولكنهم لم ينتظروا أن تأتيهم الأقدار بأعمال وفق تخصصاتهم.. لقد عملوا وفق مهاراتهم وقدراتهم التي نموها وعرفوا أن من خلالها يمكن تشكيل الفارق أيضا..

وكم من خريج من كليات الهندسة والتجارة والعلوم ما زال يجلس في بيته ينتظر أن يأتيه العمل من الحكومة! لذا لا أستطيع القول بأن الحكومة وحدها من يساهم في زيادة العاطلين عن العمل، وإن كانت الحكومة تتحمل شيئا فهي هذه السياسة التي تتبنى مبدأ العلم من أجل العمل، الدراسة وفق سوق العمل، إضافة إلى النقص الكبير في المؤسسات الجامعية الرسمية.

لذا لتكن رسالتك المقبلة إلى التعليم العالي، إلى مجلس التعليم العالي، واسأليهم عن إشكاليات من هذا القبيل، وانتظري أذنا مصغية كأذن معالي الشيخ عبد الله البكري الذي أكبرنا جميعنا فيه هذا التواضع الجم، وهذا الحس الرفيع الذي يحرص على أن يستمع وأن يبحث عن حلول للإشكاليات التي تواجه قطاعه.. ولعل وعسى يرفع أحدهم سماعة الهاتف الأرضي ويقول لك لماذا يحدث أن يجد أحدهم كل الفرص التعليمية على حساب الحكومة وهو غير محتاج لها فيما الذي يحتاجها فعلا تغلق في وجهه كل الأبواب فيظل على شهادته العامة وليبدأ في البحث عن عمل بمائتي ريال!

تعليقات

المشاركات الشائعة