وداعا للسودان الكبير، مرحبا بالانفصال!

بعد أيام تعلن دولة جديدة في أفريقيا، دولة جنوب السودان، ولا أعرف تحديدا إن كان هذا هو الاسم الذي سيكون رسميا لهذه الدولة الناشئة، أم أنها ستكون جمهورية جنوب السودان؟ ويا كثر الجمهوريات في العالم الآن، جمهوريات فضفاضة، وسرعان ما تنتهي إلى قبضة الحرب الأهلية، سيما في قارة كأفريقيا التي لم يقدر لبلدانها حتى اليوم أن تشكل قاعدة اقتصادية وحضارية تماثل دولا تحررت منذ أواسط القرن العشرين من ربقة الاحتلالات الأوروبية المتعددة، هذا إذا ما استثنينا دول الشمال تقريبا، وهي دول عربية في غالبها، لها مشاكل من نوع آخر في أحسن الأحوال

دولة جديدة تقضي على "أكبر دولة عربية من حيث المساحة" كنا حفظناها منذ نعومة أظفارنا، الدولة التي هي سلة الخضار الكبيرة، كما كان مدرس الدراسات الاجتماعية والجغرافيا يخبرنا عبر سنوات طفولة تعودنا فيها أن نحلم "بالحلم العربي" وبأنه لا يجوز أن نفرط في جزء من ترابنا العربي، وبأن الوحدة هي الأساس، وبأن الأمة العربية ينبغي أن تكون تحت قيادة واحدة، وبأن الحل في الخلافة، وبأن الغرب دبر مكيدة إسقاط العثمانيين آخر الخلافات الإسلامية، برغم أن التاريخ يقول لنا بأن الأتراك عاثوا في بلادنا العربية كما عاث الإنجليز والطليان والإفرنج كثيرا وطويلا.

نبكي إذن على تجزئ السودان العظيم، نبكي بأن النفط يذهب للجنوب، للدولة "غير المسلمة، غير العربية" نبكي بأننا لم نستطع أن نحفظ وحدة التراب العربي، وكأن التاريخ يقول بأننا كنا عبر سنواته الطويلة دولة واحدة لا أكثر!

الحقيقة أننا لم نكن دولة واحدة، ولم نكن شعبا واحدا، ولم نكن ترابا وطنيا واحدا، إذ كانت من بعد الدولة الأموية، الدولة المتحيزة للجنس العربي، كانت دول متعددة، دولة عاصمتها بغداد هي الخلافة العباسية، دولة عاصمتها قرطبة هي الأموية الثانية، دولة عاصمتها القاهرة هي الفاطمية، إضافة إلى دول أخرى: الرستمية، الأدارسة، الأغالبة في المغرب العربي، بل إن بلدا كعمان ـ أو أجزاء منه كالرستاق أو نزوى ـ كانت مستقلة وغير تابعة للدولة الأساس: العباسية.

مع الزمن كانت دول تقوم، في بلاد الشام كالطولونية، في العراق ذاته كدولة بني حمدان في شمال سوريا والعراق، ودول أخرى متاخمة للحدود الإسلامية في وسط آسيا، تلك التي تلقت أولى الضربات المغولية، تلك التي ربما اليوم لا نهتم كثيرا بها، بما أنها ليست "ترابا عربيا" فمد القومية العربية الذي نشأ في البلاد العربية منذ أواسط القرن العشرين منحنا امتيازا كبيرا بأننا "عرب" ولنا تاريخنا العظيم، ولنا "ترابنا الوطني" الذي ينبغي أن نقيم عليه دولتنا الجديدة، أن "نبعث" فيه روحنا الأصيلة ونكون ندا للعالم من حولنا، فنحن نملك الثراء، نملك التاريخ، نملك الأرض الزاخرة بالعطاء!

كلام استطاع جيل من المدرسين الموسومين بفكرة العروبة أن يزرعوه فينا، وبأننا شعب واحد، وبأننا نتكلم لغة واحدة، وبـأننا نبع من تاريخ موحد، وهذا الكلام كله "كذب" على الذقون!

نحن لم نكن واحدا، والتاريخ، التاريخ غير الملفق بالكذب والإدعاءات، ينفي ذلك، ينفي أن نكون إلا شعوبا ينبغي عليها أن تتعارف وتكوّن وشائج قربى وعلاقات صداقة وأخوة وتمد يد التعاون، وهذا هو الذي يبقيها دولا حية، أو أن تكون دولا متناحرة متقاتلة ولو على شربة ماء كحال العرب قبيل مجيء الرسالة الإسلامية.

وما يحدث في السودان ما هو إلا ترسبات العروبة المصطنعة، ما هو إلا ذلك اليأس الذي تشكل عبر سنين من خلال مقولات الواحد غير المتعدد، فيما الواقع الفعلي يقول بأن بلدا كالسودان هو بلد متعدد، في قومياته، في مذاهبه ومعتقداته، في أصوله وثقافاته، وبأن الحل المنطقي لسرطان القومية العروبية هو البتر كي يستطيع الكل أن يواصل الحياة بشكل أفضل: دولة في الشمال تؤمن بعروبتها وإسلامها، ودولة في الجنوب تفتح الباب للعرب والمسلمين ليتعايشوا مع بقية الأجناس والطوائف ضمن قانون دولة جديدة.

في زمن سابق كنت سأبكي لو قيل بأن السودان معرضة للانفصال، وبأن الغرب يكيد مؤامرة هدفها السيطرة على ثروة العرب: النفط، ولكنني اليوم أشعر بأن ما يحدث هو أمر طبيعي في ظل فساد الفكر العربي، في ظل الرجعية التي تشكل أفكار هذا "الشعب المختار" على العالمين.

تعليقات

المشاركات الشائعة