ثروة لا تنضب

الخطة الخمسية الثامنة للسلطنة أشارت بأن قطاعي التعليم والصحة سيأخذان الحيز الأكبر من الاهتمام، بما يقارب النصف، وهذا هو الأمر الطبيعي جدا، أن يكون الاهتمام الأساس مرتكزا على التعليم بالدرجة الأولى، مسح جذوة الجهل التي ما يزال المجتمع العماني يحاول أن يطفئها ويشعل شعلة نور عوضا عنها، وهذا ما يمكن لأي بلد في العالم أن تلتفت إليه قبل كل شيء، فالإنسان الواعي هو مفتاح المستقبل، الإنسان المدعم بمنطق العصر، والذي يحمل في يديه كل مفاتيح الغد هو الذي باستطاعته الاستمرار والوقوف في وجه التحديات ورفع الوطن إلى المراتب العليا التي تثير الفرح والحبور.

ثم يأتي قطاع الصحة كأساس آخر يدعم هذا التوجه، توجه بناء الإنسان ليكون الثروة التي لا تنضب، فبالصحة الجيدة يتوفر للوطن مواطن قادر على العطاء، قادر على أن يقدم كل مجهوداته البدنية والذهنية، وأن يتقدم خطوات للغد بكل ثبات.

لكن بعد أربعين عاما يبدو أن الجهود الكبيرة التي تقوم بها الحكومة في هذين القطاعين، لا يساندها وعينا بالدرجة المطلوبة، حتى وإن أشار التعداد السكاني الأخير إلى وجود وعي متطور مكن من خفض معدلات الإخصاب المرتفعة في السلطنة، وقلص حجم الأسرة العمانية المتكدسة (مع العلم أن هذا الوعي يبدو فضفاضا إذا ما علمنا أن معدلات الزواج تتناقص، في ظل وجود غلاء فاحش، وعدم قدرة من قبل الشباب على مجابهة هذا الغلاء سواء من المجتمع أو من أهل العروس)

لذا فهذه الجهود لا تمشي بالسرعة المطلوبة، إذ أن الجهل ليس في الكتابة والقراءة (والسلطنة قد تخطت مرحلة محو الأمية بمراحل) بل إنه يمتد إلى العقل وهذا هو المهم، فمخرجات كثيرة اليوم ما تزال تعاني من ضيق الأفق، مخرجات جامعية وليست تلك التي حرمت من فرصة إتمام الدراسة الجامعية، سواء بعدم قدرتها على الدفع المادي، أو ضعفها الدراسي. ضيق الأفق والعيش في الماضي والوهم، الماضي الذي لا يتوافق مع معطيات الحاضر أو المستقبل، ولا ينسجم معهما، مما يجعله من ترسبات الأوهام التي نصر على الحفاظ عليها في مكوناتنا الثقافية الداخلية، كل ذلك لا يمنحنا القدرة على أن نمشي للغد، على أن نكون نحن الثروة التي تحاول الحكومة الاستثمار فيها، وأن نظل في مكاننا لا نتحرك إلا قليلا، وهذا بدوره يقلل من سقف الحماية الصحية، فالعقل الواعي النظيف غالبا ما يتجنب الوقوع في دائرة المرض، بمعناه الأشمل.

هذا يعني بأن هناك مشكلة ما وعلينا أن نلتفت إليها، وأعتقد أن الاهتمام بقطاع التعليم العالي، وتحريره من مسألة التعليم من أجل سوق العمل، سيكون بداية جيدة للقضاء على هذا التأخر الذي ما زال يعاني منه المجتمع، أو العقول على وجه التحديد، ساعتها تتحول الجامعات والكليات إلى ساحات معرفة وليس إلى ساحات تسابق من أجل ورقة كرتونية تضمن مكانا في سوق العمل، ورقة كرتونية تمنح الفرد المتخرج أدوات محدودة، أدوات عملية تطبيقية، ولكنها في الوقت الراهن تتخلى عن منح هذا المتخرج أدوات معرفية، أدوات تجعله قادرا على التحليل والتفكير العلمي الخلاق والبحث الدؤوب المتواصل من أجل المعرفة من أجل المعرفة أولا، ومن اجل الغد، إذ ثمة فارق واسع بين من يحمل شهادة ويمتلك ادوات السوق، ومن يحمل شهادة ويمتلك تلك الأدوات، ويمتلك ما يمكنه من تطويرها واجتراح بديل متواصل عنها.

الآن لم يعد المجال مجال مهارات مهنية فحسب، بل المجال لمن لا يتوقف سعيه عن السؤال، ذلك السؤال الذي يفتح الأفق، ويوسع المدركات، ويساعد الحكومات على أن تستثمر بشكل خلاق في هذا الميدان.

تعليقات

المشاركات الشائعة