وخير جليس في الزمان كتاب!
الكتاب
عالم آخر، عالم لا يمكن أن يوقعك في شرك الحياة، فيأخذ منك ولا يعطيك! إنه يعطي ولا يأخذ، يعطي الحياة الحقيقية، يعطي ما تريده أنت فهو لا ينافقك، أنت فقط من يأخذ بمقدار ما يريد
أتذكر أني كنت مولعا بشيء اسمه القراءة، وأتذكر تحفة الأعيان عندما كنت في الصف الثاني الابتدائي كان باكورة القراءات الحرة التي أنالها.. تركه أحد الأهل في مجلس بيتنا الجديد، كان قد نسيه وحسنا فعل، حيث لم أفوت الفرصة وقضيت وقتي برفقته.. صحيح أني لم أكن أعي ما هو التاريخ، ولكنه أعجبني، وقد لا أتذكر الآن منه سوى بعض الفقرات..
يمكن أن تكون تلك البداية، ووقتها لم أكن أعي أني كائن كتب، حياتي ترتكز عليها! لم أكن أفوت فرصة القراءة، فألقف أي جريدة أو مجلة، أو أي كتاب مهترئ ألقاه أصحابه الأصليون في "درام" المخلفات! تلك هي قصة كتاب الأنساب الذي كان مهملا في صندوق حاويات متمزق الأوراق، ولكنه كان فرصة من الفرص التي لا تتاح دائما، فقرأته، وتساءلت بعد أن أنهيته: هل كان آدم شاعرا أيضا ويتكلم العربية؟ الإجابة جاءت بعد سنوات طويلة، عندما اكتشفت أن الذين كتبوا مثل تلك الكتب كانوا يعتمدون على الكذب والحكايات والأساطير في مدوناتهم التأريخية!
ثم وقعت على الكنز في مرحلة الإعدادية، عندما اكتشفت مكتبة عامرة بالكتب الجميلة، كتب متعددة، مصنفة وفق تنظيم ديوي العشري، ومنذ الأول الإعدادي وأنا أقضي وقتي في المكتبة، فما كان من أمين المكتبة الأستاذ عبد العليم نوار سوى أن أضافني إلى جماعة أصدقاء المكتبة! كانت أياما جميلة، وقررت أن أجعل بعض رفاق المدرسة وأخي أعضاء في الجماعة، ولم يكن يعنيهم سوى الاجتماعات المعدة سلفا، فيما كنت أستعير في كل مرة أذهب فيها للمكتبة ثلاثة كتب أعيدها في اليوم التالي، وبالطبع لم تكن كل الكتب يمكن إعارتها، فسلسلة المعارف العامة وكتب المراجع كانت للقراءة في داخل أروقة المكتبة الصغيرة، وكم كنت أستمتع بها: سلسلة المعارف الكبرى، تاريخ الإنسان، سلسلة الحضارة الإسلامية التي جاءت لاحقا، كتب عن الفسفات المختلفة، كتب في الأديان والمذاهب، كتب في العلوم الاجتماعية والتي لم أستلطفها كثيرا، وكتب الآداب واللغة والنقد والتاريخ
الكتب الأخيرة هي المتعة الأثيرة، حيث عباس محمود العقاد، وتوفيق الحكيم، والمتنبي، والفرزدق، وعنترة، والسيرة الهلالية، وقصص نجيب الكيلاني، ووليم شكسبير وموليير و.. وألف ليلة وليلة في أجزائه الأربعة التي لم تكن مصاغة بما يتوافق مع رؤية النقيب والذوق العام!
وخلال عامين: الأول والثاني الإعدادي كنت ألتهم تلك الكتب التهاما، إذ لم يكن يمضي يوم تقريبا إلا وأحمل للبيت كتابا معارا لأقرأه، وكان أبي يفرح أني طالب مجتهد أقرأ كتبي الدراسية وأراجع دروسي المختلفة، ولم يكن يعلم بأني كنت أختلس نفسي من الحصص كي أذهب للمكتبة، وأشاغب كي أطرد فأذهب لمكاني الأثير.. لم يكن يعلم أني عندما أطرد من حصة اللغة العربية أو الأحياء أو الجغرافيا في مرحلة الثانوية أتوجه إلى المكتبة فرحا كي أقرأ، ولم يكن يعلم بأن المصروف المكون من مائتي بيسة كان يدخر لشراء مجلة أطفال اسمها باسم، واضبت على قراءتها حتى اكتشفت مجلة العربي ومن بعدها مجلة نزوى والتي عندما قرأتها أول مرة لم أستوعب ما بداخلها مطلقا!
ولحسن الحظ أن وجدت في صحم مكتبة اسمها مكتبة المعرفة تبيع الكتب الأدبية، فكان أن اقتنيت في تلك المرحلة روايات نجيب محفوظ: القاهرة الجديدة، حضرة المحترم، خان الخليلي، ولأن المصروف لم يكن كثيرا فقد قلت لنفسي ينبغي أن أنوع في الكتب فأضفت رواية أنا حرة لعبد القدوس، لأكتشف بعد نهاية قراءتها كم أنا ساذج لأشتري مثل تلك الرواية إلى جوار محجوب عبد الدايم في القاهرة الجديدة الذي تقمصت شخصيته عندما يريد أن يهزأ من العالم فيقول: طز! الكلمة التي ما زالت عالقة بأطراف لساني كلما غضبت!
لذلك كان طبيعيا أن يقول لي بعض من رافقني إلى الجامعة وكان يعرفني من أيام المدرسة: أول مكان سيذهب إليه هلال هو المكتبة ولن يخرج منها، وهذا ما حدث: أول يوم لي في الجامعة كان لابد أن أقضي أغلبه في المكتبة للقراءة! وليس مهما الأسبوع التعريفي إذ يكفي وجود مكتبة كمكتبة الجامعة فيها كتب متعددة ومختلفة، فهذا هو التعريف الأهم!
لكن ذلك ليس كافيا لكائن كتب يقدسها أيما تقديس، ولحسن الحظ أن مائة وعشرين ريالا كانت تصرف لنا من الجامعة معونة للسكن والأكل والمواصلات كانت كثيرة بحيث يمكن الادخار منها في ذلك الزمن الجميل، ليأتي معرض مسقط الذي كان يقام كل عامين، ولتكن أول الغزوات تجاه الكتاب، حيث أتذكر أني أنفقت ما يعادل ثمانين ريالا في شراء كتب أغلبها في الرواية والقصة القصيرة والفكر.. كنت أذهب بصفة تكاد تكون يومية إلى مركز عمان الدولي للمعارض ولا أخرج إلا حاملا كيسا أو كيسين من الكتب التي أغرقت الغرفة المشتركة مع زميل كان يقرأ وفق انتقاء معين
مجموعات القصص العمانية، أحلام مستغانمي، كونديرا، علي حرب، الطاهر بن جلون، كتب في الفلسفة لم أقرأها، حنة مينا الذي لم أقرأه حتى الآن، حين تركنا الجسر لعبد الرحمن منيف، محمود درويش، أمل دنقل، عبد الوهاب البياتي، سعد الله ونوس، ميرال الطحاوي، وغيرها كانت هي الكتب الأولى التي اقتنيتها، وما زلت أحتفظ بها لليوم.. أشعر أن أي كتاب اقتنيته له مقداره الخاص كأنه قطعة مني، ولذلك كنت أغضب إذا أصاب واحدا منها أي سوء أو لم يعده أحدهم، وكم فقدت كتبا لم يعدها الذين أعرتهم إياها! وحتى اليوم وغدا ما زلت أطالبهم بعودة ما أخذوه ولم يرجعوه، وفي مقدمتهم: عوض اللويهي (دودة الكتب) سعيد الحاتمي، عاصم الشيدي..
أقول هذا الكلام عطفا على الملف الذي تم نشره في ملحق شرفات اليوم، وكان ينبغي على هيئة التحرير أن تستعرض شهادات آخرين: عوض اللويهي، عبد الله حمد، حسين العبري، علي الراوحي، عبد الله العريمي، سعيد الحاتمي، عبد العزيز الفارسي، الخطاب المزروعي، حمود الشكيلي، فأنا متأكد أن شهادات أمثال هؤلاء لن تخلو مطلقا من حكايات مؤثرة مع الكتاب!
هنا أقتبس بعض تلك الشهادات التي تم نشرها في شرفات....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من يوميات (اللاقارئ الأصغر): سليمان المعمري
( 1 )
يحلو له أن يسمي نفسه (اللاقارئ الأصغر) للأسباب التالية:
أولا: لأنه شخصية حقيقية من لحم ودم، وليس خيالية من نسج خيال كاتب.
ثانيا: لأنه ليس أمين مكتبة!
ثالثاً: لأنه لو حدث وصار أمين مكتبة فلن تحوي ثلاثة ملايين ونصف المليون كتاب.
ولو أن الشروط الثلاثة أعلاه تحققتْ لكان سمى نفسه: (اللاقارئ الأكبر)
( 2 )
عندما كنتُ أسمع أحداً من الأصدقاء يتحدث عن كتاب لم أقرأه كنتُ أشعر بالخجل الشديد من نفسي، ذلك الخجل الممتزج باحباط عرمرم، فأنى لي أن ألحق بهذه القائمة الطويلة من الكتب التي لم أقرأها في ظل هذه السيول الجارفة من الكتب التي صدرتْ والتي ستصدر ؟! .. ثمة من يعطيك أكبر من حجمك لمجرد أنك تكتب .. كتب ألبرتو مانجويل في (تاريخ القراءة) (إن النظر إلى الكاتب كقارئ، أو إلى القارئ ككاتب، أو إلى الكتاب كإنسان، أو إلى الإنسان ككتاب، أو إلى العالم كنص أو إلى النص كعالم ـ كل هذه الأشياء ليست سوى أوصاف مختلفة لفعل القراءة). بيد أن ثمة من يبالغ في النظر إلى الكاتب قارئاً : إن تكتب فهذا يعني أنك امرؤٌ قَرَّاءة، إذْ ببساطة - وكما يتشدق كثير من الكتّاب - : (قرأ يقرأ فهو كاتب !)، وعلى المرء أن ينتبه لكثرة استعمال النظارات من قبل الكتّاب والأدباء وأساتذة الجامعة .. إن شيوعها هذا ليس بسبب كثرة التحديق في الفتيات، ولا لقلة النوم بسبب السهر في الحانات، ولا للإفراط في متابعة الفضائيات، بل لأنهم كثيرو القراءة، يستريحون بين كتاب وآخر بكتاب ثالث .. والمصيبة أن نظرةً طوباوية كهذه عن الكُتّاب ليست حكراً على القراء من عامة الناس، بل إن الكتّاب أنفسهم يظنون في أنفسهم أحيانا هذا الظن الذي أزعم أن كله إثم والعياذ بالله .. لكأنهم يختلقون الكذبة الصغيرة التي تكبر شيئاً فشيئا كبالون لا يشعرون به إلا وقد انفجر في وجوههم ! .
( 3 )
تقع مكتبتي في غرفة نومي .. وهي عبارة عن عدد من الأرفف الطويلة العريضة التي تشغل الجانب الأيسر من الغرفة.. مع مرور الأيام امتلأت الأرفف فزحفت الكتب إلى الأرضية المجاورة لها، ثم أخذت تحبو كالجعلان إلى أن تسلقتْ السرير .. ولا أرى هذا بالأمر السيىء إذا ما استذكرنا تشبيه أحلام مستغانمي للكتب الجيدة في روايتها (عابر سرير) بالنساء الجميلات .. هذه نقطة .. والنقطة الأخرى أن العشرات يقتحمون مكتبات أصدقائهم ويستعيرون - وأحيانا كثيرة يسرقون - ما تطاله أيديهم، ولكن من ذا الذي يجرؤ على اقتحام غرفة نوم المرء إلا خاصة الخاصة ! .. مئات الكتب تنظر إليَّ ليلاً وأنا نائم، خاصة أنني ممن ينامون عادةً والمصباح مضاء، (ولا دخل للـ(فوبيا) بهذا الأمر بل للكسل).. تنظر اليّ .. تتأملني، تتصفحني، تقرأني من الغلاف إلى الغلاف، تستمع إلى سيمفونية شخيري دون تأفف، ولا أشك مطلقاً أنها تتعاون فيما بينها في الليالي الباردة لتلحفني بالملاءة
( 4 )
أعود إلى احباطي العرمرم، إذْ كنتُ أقول إنني أحزن كثيراً عندما أسمع كِتاباً يُعّدٌّ من أمهات الكتب ولم أقرأه بعدُ، كيف أزعم أنني أديب وأنا لم أقرأ (مدام بوفاري)، ولا (الحرب والسلام)، ولا (دون كيشوت)، ولا (البحث عن الزمن المفقود) ؟! ( في لغتي على الأقل ما دمتُ لن ستطيع قراءتها في لغاتها التي كُتِبتْ بها )، يف أتشدق أنني كاتب وأنا لم أقرأ (إمتاع التوحيدي) ولا (لزوميات) المعري، ولا (شفرة) دان براون .. وما هذه إلا أمثلة على كتب كثيرة أسمع عن شهرتها وذيوع أسماء مؤلفيها ولكني لم أقرأها، لهذا السبب أو ذاك .. وذات يوم من شتاء 2007م جاءني طوق النجاة عن طريق رجل فرنسي لم يخطر لي على بال .. إنه عزاءٌ كنتُ بأمسِّ الحاجة إليه، مفاده أنْ لا تحزنَنَّ ولا تُحْبَطن، فالكتب أصلاً يُفترض بها ألا تُقرأ !.. لعل الصديق أحمد شافعي لم يكن يتوقع وهو يترجم حواراً قصيراً لهذا الرجل لملحق (قراءات) مع مقتطف من الفصل الأول من كتابه، لعله لم يكن ليتوقع أن هذا الفرنسي سيؤثر كثيراً في (لاقارئ) عماني ممتاز .. الرجل اسمه (بيير بيارد)، ويعمل أستاذاً للأدب الفرنسي في جامعة باريس، ومناسبة الحوار الذي نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية صدور الترجمة الإنجليزية لكتابه (كيف تتكلم جيداً عن كتب لم تقرأها) ..
( 5 )
قلتُ إن غرفتي مكتبة، ولكن لم أقل بعدُ أن سيارتي مكتبة، إذ أن صندوق السيارة إضافة إلى المقاعد الخلفية للسائق ملأى بعشرات الكتب الضرورية .. وأسميها (الضرورية) ليس بقصد الحكم القيمي عليها، بل بقصد تبيان أنها (ضرورية) بالنسبة لي في فترة إقامتها في السيارة معززّة مكرمة : كأن أحتاج اليها في عملي الإذاعي (هذه النوعية أغلبها كتب قصص قصيرة)، أو الكتب التي سيُحتفى بها قريباً في النادي الثقافي أو أي مكان آخر.. أما أهم كتب السيارة فهي تلك التي أعتبرها بمرتبة أعز الأصدقاء الذين لا بد من مرافقتهم لك في أي مكان تذهب إليه.. ثمة كتب لا يليق بها أن تظل حبيسة أرفف المكتبات، بل ينبغي أن ترى الدنيا وتتنفسَ هواء الحرية المنعش الذي لا بد أنها ستمنحه لك عند قراءتها للمرة الأولى أو الثانية أو العاشرة، لا فرق .. ثمة كتب يمكن أن تشعر بالاحتياج اليها في أية لحظة، ولذا فينبغي أن تكون بقربك أني ذهبتَ، بل لا ضير أن تشاركك السرير . من هذه الكتب أذكر : (يوميات القراءة : تأملات قارئ شغوف في عام من القراءة) لألبرتو مانجويل، و(لسان آدم) لعبدالفتاح كليطو . هل قلتُ انها (معززة مكرمة) ؟! .. أظن أنني بالغتُ قليلا.. ولعلني قلتُ ذلك من فرط حبي لها، ولكن الواقع أن هذه الكتب تتعرض أحياناً لبعض المضايقات رغماً عني.. فبعضها يدوسه أخوتي الصغار - الذين يحبهم الله - بأرجلهم أثناء اكتظاظهم في السيارة استعداداً لصلاة الجمعة.. وبعضُها يُختَطَف دون معرفة هوية الخاطف ..وبعضها يحترق !!، ليس بالشمس اللاهبة كما قد يتبادر إلى الأذهان، بل بـ(التيزاب) .. حدث هذا عندما وضعتُ ذات مرة (الدبة) المليئة بالتيزاب الخاص بالبطارية في صندوق السيارة وهي غير محكمة الإغلاق، فكانت النتيجة حروقاً من الدرجة الأولى مع مرتبة الشرف في بعض من الملابس وكثير من الكتب .. ولا أدري إلى اليوم لماذا لا أتذكر من هذه الكتب المحترقة سوى رواية (هند والعسكر) لبدرية البشر ؟! .. تُرى ماذا ستقول لو علمت بهذا الأمر وهي التي مَهَرتْ الكتاب بتوقيعها ؟! .. عندما أتذكر الأمر أفكر أن كافكا لو عاش إلى اليوم كان سيتخذني صديقاً بدلاً من ماكس برود الخائن الذي لم ينفذ وصيته باحراق كتبه!..
( 6 )
(كيف تتحدث جيداً عن كتب لم تقرأها ؟) .. العنوان مغرٍ بالدخول، إذ كيف يمكن للمرء أن يتحدث عن كتاب لم يقرأه، ناهيك عن أن يكون هذا التحدث (جيداً) كما أراد له بيارد .. والمفارقة أن كتاباً كهذا ينصح في العمق قراءه بعدم القراءة صار من أكثر الكتب المقروءة في أوروبا بشكل عام، وألمانيا على وجه الخصوص، أو على الأقل هذا ما تشي به نسبة المبيعات .. يعلق بيارد على ذلك متهكماً : (هناك الكثير من اللاقراء، وقد أرادوا أن يروا شخصا يدافع عن حقوقهم ).. إن بيير يدافع عني وعن كثيرين من أمثالي من خلال استدعاء (اللاقارئ الأكبر)، الذي لا يفتح كتاباً، وبرغم ذلك يعرف الكتب ويتكلم عنها بدون أدنى تردد : إنه أمين المكتبة في رواية (رجل بلا مزايا) لموسيل .. وهو وإن يكن شخصية ثانوية في هذه الرواية، إلا أن موقفه المتطرف وشجاعته في الدفاع عن هذا الموقف يجعلان منه شخصاً لا يُنسى . نستشف من خلال هذا الرجل – وكما يقول بيارد – أن (القراءة أولاً وأخيراً هي اللاقراءة. فحتى في حالة القراء الأكثر شغفاً وتفانياً، فإن فعل القيام بتناول كتاب وفتحه ليس إلا مجرد قناع للفعل العكسي الذي يحدث في الوقت نفسه، وهو فعل عدم القيام بتناول وفتح كل الكتب الأخرى في العالم). إن أمين المكتبة التي تحوي ثلاثة ملايين ونصف المليون كتاب يعزف عامداً متعمداً عن القراءة لا عزوفاً عن الثقافة، بل من أجل معرفة أفضل بكتبه، فها هو يفسر للجنرال الذي جاءه قاصداً ليبحث من خلال هذه الكتب عن الفكرة الأعظم التي يُفترض به أن يهديها لحبيبته : (سيدي الجنرال، لو أنك تريد أن تعرف كيف تأتَّى لي أن أحيط بكل كتاب هنا، فبوسعي أن أخبرك! سر ذلك أنني لم أقرأ أيا منها). يرى بيارد أن معظم ما يقال عن الكتاب لا يكون عن الكتاب نفسه، وإن بدا غير ذلك، وإنما عن مجموعة أكبر من الكتب التي تقوم عليها ثقافتنا في لحظة الحديث، وعليه فإنه ليس مهمّاً معرفة محتوى الكتاب، بل موضعه، ومكانه بين الكتب الأخرى، (وهذا التمييز بين محتوى الكتاب وموضعه يشكل أمراً أساسياً، لأن ذلك هو ما يتيح لغير الخائفين من الثقافة أن يتكلموا دونما مشكلات في أي موضوع) .. ولو طبقنا هذا الأمر على حالتي سأقول إنني لم أقرأ (الشراع الكبير)، لذا فإنني لا أعرف محتوى هذا الكتاب، ولكني أعرف موضعه في الأدب العماني، لذا يمكنني أن أفتي بأنه رواية تاريخية تتحدث عن كفاح العمانيين ضد المستعمر البرتغالي في القرن السادس عشر. مستلهمة أهداف الوحدة والتكاتف والثورة ضد الاستعمار. وأن المرحوم عبدالله الطائي كتب هذه الرواية ما بين عامي 1969 و 1971، وتولى أبناؤه طباعتها بعد وفاته .. إن اللاقراءة هنا شبيهة بـ(لاقراءة) أمين المكتبة في رواية موسيل .. غير أن ما يميز الأخير – من وجهة نظر بيارد - هو أن الموقف الذي يتبناه من الكتب غير سلبي، بل إيجابي طبعاً. فلو أن كثيراً من المثقفين هم (لاقراء)، ولو أن كثيراً من اللاقراء هم مثقفون، فذلك لأن اللاقراءة ليست مجرد انتفاء القراءة. بل إنها نشاط فعلي هو عبارة عن تبني موقف يقي من الغرق في سيل الكتب الجارف. ومن هذا المنطلق – يؤكد بيارد - فمن المهم الدفاع عن هذا الموقف بل وتعليمه.
( 7 )
أخذ وأعطي .. أزور وأُزار وأحياناً أَزْوَرُّ .. أُعير وأُعار وفي بعض المرات أَعْوَرّ .. وما يسري عليّ يسري على كثيرين .. غير أنني تعرضتُ لسمعةٍ غير جيدة فيما يخص استعارة الكتب لسببين : الثاني استشهادي في أحد مقالاتي بالمقولة الخالدة : (أحمق من يعير كتاباً وأحمقُ منه من يرجعه )، أما السبب الأول فهو تضييعي لرواية عنوانها (مزاج) أعارتنيها احدى الأخوات العزيزات والتي تصادف – لسوء حظي – أنها كاتبة عمود أسبوعي، فكان أن كتبتْ – ذات مزاج عَكِر - مقالاً تؤبن فيه روايتها، وتحذر فيه المؤمنين والمؤمنات من إعارتي أي كتاب، وهو الأمر الذي انعكس سلباً على سمعتي كمستعير رغم أنه لم يخلُ من نقطة ايجابية، ففي غير موقف كنتُ أطلب استعارة الكتاب فأتلقاه كهدية، ربما لليقين المسبق من قبل المُهدي أنني لن أرجع كتابه ! . وعلى كلٍّ، ها أنا بكامل أرادتي وقواي العقلية، وتعبيراً مني عن حسن نيتي وسلامة طويتي أذكّر الأصدقاء بالكتب التي استعرتُها منهم، والتي سأرجعُها ولو بعد حين :
عبدالعزيز الفارسي : (زوربا) كازنتزاكي، و(الركض في مساحة خضراء)، وأعمال جميل حتمل الكاملة .
مازن حبيب : (حفلة القنبلة) لجراهام جرين، و(سنتان وتحترق الغابة) لسعيد حورانية .
محمود الرحبي : (أهالي دبلن) لجيمس جويس، و(أصابع الصفصاف) لوارد بدر السالم، و(عجائب ) لصلاح عبداللطيف .
ناصر المنجي : (دوائر من حنين) لسعيد الكفراوي (سيظل هذا الكتاب لدي إلى أن يعيد كتاب (سأخون وطني) لمحمد الماغوط) .
حسين العبري : (لوليتا) لنابكوف
سماء عيسى : راعي القطيع لفرناندو بيسوا
زاهر المحروقي : رقص الطبول .. قصص من أمريكا اللاتينية
سالم الرحبي : (حيرة العائد) لمحمود درويش، و(أيام يوسف الأخيرة) لعبدالقادر عقيل.
عاصم الشيدي : (رسائل إلى كاتب شاب) لبارجاس يوسا.
هلال البادي : (مريم الحكايا) لعلوية صبح .
أما أنتَ يا وحيد الطويلة فأحمد الله أن المسافة بيني وبينك (طويلة) بما يكفي لئلا تسألني عن روايتك (أحمر خفيف) هل وصلتْ لسيف الرحبي أم لا ؟..
من بقي ؟! .. يحيى اللزامي، ليس فقط لكتبه الجميلة التي يُحضرها لي من القاهرة بين الفينة والأخرى، بل لأنه أول من أعلمني بهذين البيتين الجميلين:
ألا يا مستعير الكُتْبِ دعني
فإن إعارتي للكُتْبِ عارُ
فمحبوبي من الدنيا كتابي
وهل أبصرتَ محبوباً يُعارُ
( 8 )
من المناسب التنويه أن بيير بيارد قدم بحثاً عن بروست نشره في كتاب دون أن يضطر لقراءة أعمال بروست كاملا !! .. الصحفية التي أجرت الحوار معه سألته مداعبةً: (قرأتُ كتابك(كيف تتحدث جيداً عن كتب لم تقرأها) استعدادا لهذه الحوار، هل ترى أنني أخطأت بذلك؟) فرد عليها بتهكم شديد : (ماذا تقصدين بقولك (قرأت كتابك)؟ إن واحداً من أغراض كتابي هو أن يبين أنه ليس من السهل أبدا أن يقول أحد إنه قرأ كتابا).
( 9 )
رغم أني أمارس هذا الأمر كثيرا لاعتبارات وظيفية الا أنني ما زلتُ أستعجب من أولئك الذين يزعمون أنهم يستمتعون بالقراءة بصوت ! .. متعتي الحقيقية في القراءة بصمت، (عيناي تغطيان الصفحة وأستقبل المعاني بقلبي)، تماماً كما وُصِفتْ قراءة القديس أمبروسيوس أسقف مدينة ميلانو في القرن الرابع الميلادي . (0 1 ) (أعرف أنني أعيش وأفكر بداخل متجر كتب، بعضها حديث، ولافت، ولكن الأغلبية العظمى كتُب تعفنتْ واستحالتْ تماماً إلى غبار. لم يبقَ منها غيرُ أطرها المعدنية وبعض من جزيئات المعرفة، وهي على أية حال غير قابلة للاستعمال . النور القادم عبر نوافذ قليلة يمر بالمتجر دون أن يعيقه عائق ، اليوم قرأتُ مرتين هذا المقتطف الذي ترجمه أحمد شافعي أيضا للشاعر الفرنسي باتريك دوبوست: في الأولى قرأتُه بصمت، أما في الثانية فبصوت مع خلفية موسيقية هادئة.. في الأولى كان دوبوست يبوح لي بسره .. في الثانية كنتُ أشي به للعالم ! .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غفوة الساحر لا يقظته: آمنة الرّبيع
بعض الكتب كالحُّب، تغرقُ فيها ومعها حتى تترسخ في أعماقك هيئة المُحِّب أو هيئة المحبوب. لكن أحيانا ما تمنحنا عاطفة الحُّب وهما مضللا بمعرفة أحدنا للآخر.. لهذا تُصيبني بعض الكتب بالكراهية.وبعض الكتب كالبشر، نقرأها لنحيا فإذا هي تميتنا، والموت هنا مجازي بالضرورة، لكونه يكشف عن مدى شعورنا ببؤس وعينا. وبؤس الوعيّ أخطر عن بؤس الأيديولوجيا. لا أتذكر وأنا المنشغلةُ باستعادة كل ما من شأنه إيغال كتابتي في التذكر والأمس والماضي واللحظة المنصرمة لا أتذكر على وجه الدقة كيف بدأت العلاقة بيني وبين ذلك الساحر! ولا أدري إذا كنت أستطيع أن أتذكر عنوان الكتاب الأول الذي بعث بهجة خاصة في نفسي. أستطيع مثلا أن أتذكر اسم آخر رجل أحببته، لكن الأول لا ينتهي أبدًا، أظنه يتكرر في حيوات كثيرين! في مكتبي توجد منحوتة أثرية لتمثال (الكاتب) في الحضارة الفرعونية. وظيفته كانت التدوين والتسجيل. انتقال تلك الوظيفة للكتاب المعاصر الذي يدخل المطبعة، بحيث يكون كل كتاب نتحصل عليه ونقرأه كأنه تدوين وخلق في آن. هنا يكمن سرّ المخبوء في فكرة الكتاب. مع الساحر تتحول القراءة إلى سلوك والشغف إلى هدف.حينما أدخل إلى مكتبي، أتأمل الكتب المصفوفة بعناية وتنسيق على الأرفف. تلتقط يدي كتبا مختلفة في الفلسفة وفي النقد. اقرأ بنهم شديد فيهما. استوقفتني حياة كثيرين من الفلاسفة، لكنني أنحني أمام حياتين: حياة الفيلسوف ابن رشد، والفيلسوف كير كيجارد. هناك ما يجعلني أنشد إليهما، ربما إخفاقات الحُّب مع الثاني، وتجليات المخيِّلة وهي تتحرّش بالمُحَّال مع الأول. مع الفلسفة تشكّل معنى قيمة القراءة في حياتي وليس قيمة الكتاب. لا يوجد كتاب بعينه يُشكِّل قيمًة وبهجًة عندي، بل ما يجعل لحياتي القيمة والمعنى ويدخل البهجة والسرور هو النصّ الإبداعي فحسب. لا يهم إن كان قصيدة أو رواية أو مسرحية أو مقالا في النقد. قيمة ما أتحصّلُ عليه من متعة فورية، وقيمة معرفية هو تمامية انتشائي. لكن هل بالضرورة أن يكون لكل كتاب نقرأه قيمة معنوية أو فائدة ما؟! ليس بالضرورة طبعا، هذا مضحك، فهناك بعض الكتب التي تبعث على السأم، كحياة بعض الأثرياء!«نازلا من نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل البلاد وكانت السنة انفصال البحر عن مدنالرماد وكنت وحدي.. ثم وحدي.. آه يا وحديكان اكتشاف الذات في العربات.. أو في المشهد البحريّفي ليل الزنازين الشقيقة.. في العلاقات السريعةوالسؤال عن الحقيقة.. صاعدًا نحو التئام الحلم تتَّخذ التفاصيل الرديئة شكل كمثرىوتنفصلُ البلاد عن المكاتبِ .. والخيول عن الحقائبللحصى عرقٌ. أقبل صمتَ هذا الملحأعطي خطبة الليمون لليمونأوقدُ شمعتي من جرحي المفتوح للأزهاروالسمك المجفَّفللحصى عرق ومرآة .. وللحطّاب قلبُ يمامةأنساك أحيانا لينساني رجالُ الأمنيا امرأتي الجميلة تقطعين القلب والبصل الطريَّ وتذهبين إلى البنفسج ... فاذكريني قبل أن أنسى يديَّ»هذا النص المقتطع من قصيدة لمحمود درويش، يُبهجني ويأسرني كليًّة. لعلّني أتعامل معه كمشروع ذاتي تمامًا. هذا النصَّ غيّر حياتي في اتجاه آخر. جعلني أكثر حُزنا وحميمية نحو الداخل. هناك شخصيّة نسائية خبيثة خانت مجرى النصّ الدرويشي، لم تتجاوزه ولم تغيره بصورة تمامية، لكنها حركت الحزن باتجاه المغامرة، شخصيّة (فلورا تريستان) بطلة رواية (الفردوس على الناصية الأخرى)، لماريو بارغاس يوسا. كنت أخطط لسرقة هذه الرواية. هذا اعتراف لا أخجل منه، ويشعرني بالفرح الداخلي والشيطاني؛ لأنني أعتقد أنّ سرقة الكتب حلال بالعشرة. فقط سرقة الكتب. لكن خطتي لم تنجح، فكما يحدث في روايات ميلان كونديرا، هناك نجم ما يتبعك ليهديك ويدلك على المشي، فكان أن توفر ذلك الرجل الذي اشتراها وأهداني إياها. قرأتها في أسبوع، بين عمّان ومسقط وأدنبرة وكمبردج، بسبب تدويني لملاحظاتي الشخصيّة والفنية في قراطيس كثيرة، أنوي الاشتغال عليها شغلا ثقافيّا، سيتقاطع مع عمل سردي كلاسيكي مواز، لا يقل عنها عبقرية؛ طالما عندي ما يكفي من الخبز لخمس سنوات قادمة. في الواقع قليلة هي الأعمال الإبداعية التي تعيدني إلى البحث في سيرورة ظهور المَدنية والحضارة والدفاع عن الحريّات. هناك اشتغال فلسفي وموسيقي ورياضي في الفردوس على الناصية الأخرى، كما أنّ فيها قمة الضعف الإنساني، ومكابدات العشق والخلود والموت والجمال. هذه الرواية أو هذا (الكتاب الرواية) إن شئتم، تقاطعت فيه شخصية (فلورا تريستان) مع حياة شخصيّة أخرى، حفرت كثيرًا في تشكيل الوعي عندي؛ وأقصد بالوعي هنا، أن يكون هناك كتاب بين يديك تحمله في كل مكان تذهب إليه. إنها شخصيّة (راسكو لنيكوف). كان (بول غوغان) يُحدث نفسه بأنّ الإيمان في داخله لن يُهزم! حين أتأمل هذه الصراحة، أتذكر راسكو لينكوف، لقد انهزم، برغم إيمانه الذي في داخله. وكما تقتفي حائكة بارعة خطوط الأنموذج الذي تُصممه، أقتفي شكل المدينة العربية الحديثة في روايات (نجيب محفوظ). لا يوجد شكل أحادي لأيّ مدينة عربية. لبنان تختلف عن دمشق، وعمّان تختلف عن العراق. لكل مدينة سمتها العبيري الذي يفوح منها. في لحظات ينتابني الشعور بأن هذه المدن مُقطعة تقطيعا سينمائيا عجيبا ومدهشا. ما المدهش الذي يثيره اكتشاف وجود تشابه في دول المغرب العربي، على مستوى تقطيع الشوارع والبيوت والأزقة؟ وهذا التصور لا يصمد أمام ما تحاول الكتابة الإبداعية أن تقوله عن دول المشرق العربي. لكن نجيب محفوظ حالة خاصة إن لم تكن شديدة الخصوصية. أقترب من رواياته بين فترة وأخرى لتجاور تخصصه في الفلسفة مع تخصصي، وكل رواية كتبها، تعادل جدارية بمفردها. المدينة التي رسمتها كتاباته، مدينة تلتقي فيها كل الأضداد، وهي المدينة العربية الوحيدة التي يمكن أن تشهد فيها ميلادك، أو موتك، في لحظة خاطفة! لا بد أن أختتم حديثي عن الساحر في طاقيته الأثيرة عندي. يا تُرى ماذا يوجد في طاقية الحاوي؟ في آداب المستعمرات القديمة غالبا ما يتوقع هذا السؤال: لماذا تحتاج الشعوب التي كانت خاضعة للإمبراطورية أنّ ترد بكتاباتها على المركز بعد أن تفككت بنية الأمبراطورية من الزاوية السياسية؟ وهذا صحيح إلى أبعد ما يمنحه لي (حد الشوف)! النصّ المسرحي اليتيم الذي لا أتردد أن أحمله معي في السفر هو مسرحية (ايكوس أو الحصان) لبيتر شايفر.لسببين فقط هما: الأول: معاصرة مؤلفها للمسرحيّ المشاكس (هارولد بنتر). الثاني: التطرّف في كتابة النص المسرحي، باتقان عال ومرعب. الشكل في هذه المسرحية حديث جدا وغير تقليدي بالمرة، وأميل بشكل واضح إلى هذا التكنيك من الكتابة المسرحية. فكيف تنقل ما يحدث في السينما من لقطات وقَطع إلى المسرح، حيث يتم تقطيع الزمن، بل وتفتيته إلى جزيئات صغيرة أو ذرات. يستهويني هذا النوع من الكتابة، لذلك أحرص أن يسافر معي هذا العمل ليساعدني على التدريب الدائم في كتابة النص المسرحي، حتى لو كان النصّ الذي أنشغل به غارقا في التراث. هنا بالذات سأعود إلى طاقية الحاوي، وعند النقطة المتعلقة بحاجة الشعوب الخاضعة للرد بالكتابة على المركز لأنهي حديثي الذي آمل أن يكون شيقا. الكتابة كانت تعني لي مواجهة امحاء الذات. يعني أن تنشغل ذات المبدع بتقصي الأثر، وتكوين تلة أو جبل. هذا المعنى يتطور تلقائيا، بمعنى أنه يأتي بعد سلسلة من الكتابات والمساءلة، لتصبح الكتابة في تماميتها (كتابة الذات) شكلا من أشكال القراءة الارتدادية للوراء. لا علاقة لهذا الارتداد بنظرية العود الأبدي النيتشوي. الوراء يأتي بمعنى الزمن، والانتقال من اللحظة المعاصرة إلى لحظة أكثر عصرنة. هذا أسلوب علمي، لا علاقة له بالخرافات. الخرافة حيلة الكاتب العاجز. وأن نكون حديثين تماما هو أن لا نسأل عن محتوى الحداثة، بل نخدمها بلا تردد. بمعنى أن لا نفعل ما يفعل العاطلون عن العمل. هنا تجد الشعوب نفسها ترد بالكتابة تقنيّا، في الواقع، فتنتشر الروايات والقصص وتطلع المسرحيات والقصائد، كما تظهر الدراسات، في كل هذا الكم الكبير، لا نعثر على الكيف والجمالي بسهولة. ربما إذا قارنا بين مكانة (الكتاب) في حياتنا، لا نجده يشكل قيمة تترسخ في أعماق شعوبنا، فانشغالنا بالكتابة، محاولة لأن نقرأ ما في داخلنا، حتى أحلامنا متورطة في خفة الحياة وثقل الكتابة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذلكَ السِحرُ الحَمِيد: أحمد حسن المعيني
ذاتَ ظهيرةٍ من عام 1988 عاد طفلٌ مِنْ مدرسته، دلفَ إلى حجرتهِ منتظرًا هدية عيدِ ميلادهِ بفارغِ الصبر، وما إنْ دخلتْ عليه والدتهُ ومعها ذلك المظروفُ البنيّ حتى تسمّرَتْ عيناهُ عليه محاولأ تخيلَ اللعبةِ الجديدةِ في ذلك المظروف، ولم تكنْ تلكَ اللعبة في الحقيقةِ إلا مجموعة كبيرة من كتبِ الأطفال.كانَ ذلكَ أولَ عهدي بالكتب (غير الدراسية)، وفرِحْتُ بها كثيرًا رغم أنني لم أكن أعرفُ عنها شيئا. ربما فتنتني ألوانُها ورسومُها وعناوينُها الجذابة. قرأتها كلها، ثم رقمتها وأخذتُ أقترعُ أيها أقرأ مرة أخرى إلى أن أنتهي منها جميعًا، وظللتُ أكرّر ذلك لسنين مع إضافةِ كتبٍ جديدةٍ للناشئة كنتُ أقتنيها من المكتباتِ القريبة، إضافة إلى مجلات الأطفال الشهيرةِ كـ»ماجد» و»باسم» و»أحمد». أما المحطة الثانية فكانت مع اكتشافِ روايات الجَيب المصريةِ في المرحلةِ الإعدادية، حيث جرّبتُ متعة جديدة لم أجدْها في أيٍّ مما قرأتُ سابقا. كانت المتعة شديدة لدرجةٍ جعلتني أقتطعُ في كثيرِ من الأيامِ نصفَ مصروفي الضئيل لثلاثة أيام كي أوفرَ ثلاثمائة بيسة لشراء عددٍ من «رجل المستحيل». وكانت هناكَ في المدرسةِ قلة يسمونها «ثقيلي الظل الذين يقرأون الكتب» أتبادلُ معهم هذه الروايات.وأما المحطة الثالثة فكانت في نهاية المرحلةِ الإعدادية عندما أعارني جاري رواية لـ(أجاثا كريستي)، لم أكترث بها زمنا طويلا، ولكن منذ قرأتها أدمنتُ (كريستي). في تلك الأيامِ لم يكن من السهلِ أن أوفرَ ريالا ومائتي بيسة ثمن هذه الروايات، فعمدتُ إلى المشاركة في مسابقات مجلة ماجد، وكنتُ أنالُ ما قيمته 10 أو 20 درهمًا، فأذهبُ من فوري إلى مكتبةٍ قريبةٍ وأشتري رواية لكريستي. وحدث في المرحلةِ الثانويةِ أن حصلتُ على هديةٍ ماليةٍ من أسرتي في وقتِ معرضِ الكتاب، وكانت أيامُ اختبارات منتصف الفصل. في اليوم الأخير للمعرض خرجتُ خلسة من البيتِ واتجهتُ إلى هناك، فوجدتُ روايات كريستي تُباع بنصفِ ريال، فما كان مني إلا أن اشتريتُ حوالي 40 رواية وعدتُ تتملكني الفرحة والخوفُ من افتضاحِ أمري. أدخلتُ الكتبَ سرًا وخبأتها، ولم استطعْ أن أتجاهلها وأدرسَ لاختبار الرياضيات، فقضيتُ ليلي أقرأ، وأقلبُ على مضضٍ بين الفينة والأخرى صفحات دفتر الرياضيات. وفي صباح اليوم التالي كدتُ أرسب في الاختبار. وأما المحطة الرابعة فكانت اكتشافَ المكتبةِ الإسلاميةِ في روي مع انتقالي لمرحلةِ الثانويةِ العامة. كانتْ تلك السنة أثرى فتراتِ القراءةِ في حياتي، فرحتُ ألتهمُ الكتبَ التراثية والكتبَ الدينية والرواياتِ العربية والمترجمة والدواوينَ الشعرية والكتبَ التاريخية وغيرَها بلا انقطاع، خصوصًا أنه لا توجدُ اختباراتٌ فترية في الثانويةِ العامة. كانت تلكَ السنة ما يشبه الانقطاعَ عن الأصدقاءِ والحارة، فكان أغلبُ وقتي مع الكتب.تلكَ الهدية التي أهدتنيها أمّي عام 88 كانت كفعلِ السحر الذي لم أشفَ منه. أحببتُ أفلام الكرتون وأفلام السينما، ولكنني كنتُ أستمتعُ بالقصصِ المكتوبةِ أكثر. عشقتُ الكرة ومارستها طِوال صِباي، ولكنني لم أستطع هجر القراءة. أحببتُ الموسيقى والأغاني الجميلة، ولكنني كنتُ أجدُ أصواتًا أعذب في الكتب. ومع مرورِ السنين أجدُ أنّ هذا السحرَ يقوى بدلا من أن يضعف. وقد اكتسبتُ عادة غريبة بدأتْ عندما كنتُ أدرسُ في مانشستر عام 2004، وما زلتُ أمارسُها بوعي أو دون وعي. عندما يتملكني الضجرُ أو الكللُ أو أرغبُ في الترفيهِ عن نفسي قليلا، أجدُني قد ارتديتُ ملابسي وخرجتُ مارًا بالمكتباتِ الشرائيةِ وأكشاكِ بيعِ الكتبِ المستعملة، أتفرجُ باستمتاع، وأتخلصُ من ضجري بشراءِ كتاب، لأعودَ بابتسامةٍِ كبيرة كطفلٍ اشترى قطعة حلوى!
تعليقات
إرسال تعليق