غريب في مساقط السعادة
أما بعد،
فأعود اليوم إلى مدينة مساقط السعادة التي سبق أن أخبرتكم عنها، مساقط السعادة الكبرى التي أناسها طيبون بشوشون في وجوه الغرباء ويبذلون كل ما في أيديهم من أجل أحدهم جاء من البعيد لعمل أو دراسة أو مهمة ما، ولم يعرف التاريخ إلا ذلك النبل وتلك الأخلاق التي باتت من النوادر تحكى في كل حارة وكل رصيف.
الغرباء كانوا يحبون هذا المكان، يحبون أن يأتوا إليه لا لغدر لا سمح الله وقدر، بل لأنهم أيضا أحبوا هذا المكان، أحبوا هذه المدينة الطيبة التي تقع شمال خط الاستواء بقليل، والتي يقال بأنها برغم حرها الصيفي الكبير إلا أنها تظل مقصدا للسياح والراغبين في اكتشاف الجمال والحب والألفة
وعلى مدار سنين طويلة كان الغرباء يبادلون أناس هذه المدينة الدهشة، لأنهم شاهدوا ما لم يشاهدوه في أي مدينة أخرى: الغريب قبل الأخ، ولا غريب يضام عند أهل هذه المدينة
أنا أيضا رادوني الشك في أن هذا الأمر ما هو إلا افتعال، فمحاكم المدينة مليئة بالشكاوى "البايخة" بين الناس، بين الأخوة، بين أهل الدار الواحدة، ونادرا ما تكون هناك شكوى ضد غريب، وهذا أمر حميد لأن المهم هو أن تظل الصورة براقة "هناك" و"عيب" كبير أن نشاكي هؤلاء المساكين الذين جاءوا لخدمة هذه البلاد التي ما تزال تخرج من الظلمة إلى النور.
لكن أحد شباب المدينة الذين لوثتهم المدنية الحديثة، وأصبحوا متشربين من حليب "الإنترنت" و"الفيس بوك" و"جوجل" سامحه الله عندما أهدى معطفه لأحدهم! هذا الشاب لا أشكك في أنه يحب مدينته الجميلة، ولا أشكك في أهدافه النبيلة، ولكنه ـ سامحه الله ـ نطق بما هو خارج عن "قيم" هذه المدينة العريقة، قال ما لم يقله أحد من قبله، وفعل ما لا نريد أن يفعله أحد من بعده
حسنا، إني أرى السؤال في أعينكم، وسأخبركم بالحدث: يحكى أن هذا الشاب كلف بمهمة سهلة، أن يكتب عن الحي الذي يقيم فيه، مع ثلة من الشباب المعروفين بطلاقة اللسان والقلم، والذين يجيدون الديباجة وحسن الصياغة الكتابية، كل واحد منهم اختار حيا من أحياء المدينة يكتب عنه، من أجل الاحتفاء بأربعة آلاف عام من الحضارة، وكانوا يجتمعون كل أسبوع كي ينقحوا المادة ويرتبوها بشكل متناسق ومتين، وفي أحد اجتماعاتهم أخبرهم المسئول بأن "كاتبا" كبيرا سيقوم بكتابة المقدمة، ثم أخرج رزمة أوراق وطلب إلى الشاب أن يقرأها ويحررها ويراجعها ويبدي رأيه فيها، كان ذلك الكاتب ليس واحدا من أبناء المدينة بل غريبا عنها ولكنه محبوب فيها لأنه متغرب وبعيد عن أهله ولابد من إيجاد ألفة بديلة حتى يطمئن. والحق يقال بأن هذا الكاتب "الكبير" والصحفي الألمعي كان طيبا أيضا ومسالم ويجب الناس، ولكن كلاما كثيرا كان يدور حول ما يكتبه: هل هو كاتبه؟ وهذه خصلة سيئة في أبناء مدينة مساقط السعادة الكبرى، أن يتعرضوا للناس "الأصفياء" بالقيل والقال
المسئول الطيب قال للشاب المتحمس: أي هذيان هذا الذي تقوله؟ ألا تعرف قواعد الأدب والضيافة؟ لكن الشاب كانت عينه قوية: أخرج رزمة ورق يومها وقال للمسئول: خذ اقرأ هذه الأوراق، إنها المادة ذاتها التي قدمها "كاتبنا" الكبير، ولم يكلف نفسه أن يغير ولو حرفا صغيرا.. انظر بعينك واقرأ، وهذه صفحات الإنترنت التي أخذ منها ونقل منها.. انظر بنفسك وستعرف لماذا الناس في كل العالم يحبون "الجوجل" الآن، لأنه يستطيع كشف الكذب والإدعاء والنفاق، يستطيع أن يؤكد لك بأن هذه المقدمة مسروقة وبلا أي تعب، ولو أعطيت طالبا في الإعدادية لكتب كلاما أهم وأجمل وليس مسروقا
صمت، ولم يتكلم فيما كان يرى "الكاتب الصحفي الكبير" يخرج من الباب بلا أي حس أو همس، فيما المسئول الكبير لم يكن يعرف ما يفعل وكيف يعتذر عن خطأ الشاب المتهور قليل الاحترام الخارج عن عرف أهل مدينة مساقط السعادة الكبرى.
تعليقات
إرسال تعليق