ما زلت في الشارع
أما بعد،
فقد رأيت سيارات صغيرة مصابة بجنون التهور، ورأيت شبانا عمانيين يقودون شاحنات من نوع "نصف نقل" مصابين بالداء ذاته، ولا يهم إن كانوا يقودون قنابل موقوتة عندما ينقلون اسطوانات الغاز مثلا، أو أنهم يقودون صهاريج الماء أو شفط المجاري وغيرها
رأيت كيف يقوم شاب عماني بقيادة "باص" أجرة يضم ما يزيد أحيانا عن العدد المفترض وهو خمسة عشر راكبا، وكيف لا يهتم فعليا بتلك الأرواح التي يحملها معه، فيجازف ليس بالسرعة فحسب، بل بأشياء كثيرة أخرى.
ورأيت كيف يقود أحدهم "باصا" للطالبات مثلا، ويكف أنه أخطأ الحسبة قليلا فأودى بحياة فتيات بريئات دفعن لهن أهاليهن الغالي والنفيس من أجل فرصة تأتي بعد التخرج، ولكن الموت غيبهن وبدد أحلام سداد الديون
ولكنني حتى اللحظة لم أتصور أن أرى قائد شاحنة عملاقة متهورا كأنه مخمور يقذف بشاحنته يمينا وشمالا ويغلق الطريق أمام أصحاب السيارات الصغيرة أمثالي، لم أتصور ذلك ولكنه حدث، وها أنا الآن عالق خلفه ألعن اللحظة التي جعلتني أصير وراءه. ماذا يهمه هو ما دام مالكا الطريق كله؟ فحتى لو حاولت أن أعطيه الإشارة كي يزيح ثقله عن الطريق كي نعبر نحن سرب الصغار ما كان ليتحرك! ويبدو أن مزاجه متعكر لذلك يأبى إلا أن "يفش" ضيق صدره في هؤلاء الصغار. لابد أنه يشعر الآن أنه صاحب نفوذ كبير، وبإمكانه الانتقام من كل أولئك الذين عكروا صفو مزاجه ذات لحظة، لابد أنه يبتسم وهو ينفث دخان سيجارته الرديئة ويقول في سره: ذوووقوه، حد قالكم تسويوا شارع واحد وتخلطوا السيارات بعضها ببعض! كدت أسمع جملته تلك، وخطر في بالي لو أني فكرت في فكرة ما، فإنها قد تصله، فكرة أني خرجت باكرا بعد صلاة الفجر لأقطع ما مسافة تزيد عن ستين كليو مترا كي أصل إلى مقر عملي، ولأني أخشى الزحام وأمقته لأني من سكان الصابرات، أقصد العامرات، فإني سأخرج باكرا جدا كي لا يقع المحظور. غير إن المحظور وقع وبات علي أن أتحمل مزاج شاحنة عكر. الأدهى أني حشرت بلا قصد مني أنا وآخرين بين شاحنتين عملاقتين، ويبدو أن لأحدهما ثائرا مع الآخر، وإلا فلماذا هذا العناد غير المبرر؟ لماذا يصران على حجز كل الطريق لصالحهما؟ هل يريدان أن يضمنا أننا لن نجرؤ على التجاوز الخاطئ من اليمين؟ ألا يعلم هذان الضخمان أنني "تبت" عن حماقة الشباب والتصرفات الصبيانية منذ أن ارتفعت الأسعار حتى وصل إلى شركات التأمين وما عاد من المجدي كل هذا الصلف البشري الذي نفعله في الطريق، فكان لابد أن نتوخى الحذر كي تنجو المائة ريال التي كانت تذهب "زكاة" للطريق، جراء المخالفات؟ نعم أيها العزيزان اللذان تحجزانني الآن، قد تبت منذ أن رأيت أني أدفع مبلغا طائلا عندما أذهب لتجديد سيارتي ومبلغا تأمينينا محترما، إذ يمكن لتلك "الفلوس" أن تشتري مئونة شهر ربما، وقد آكل من سمك "الكنعد" ذلك الشهر فالأسماك لم تعد رفاهية لشعب يسكن جوار البحر! وأيضا قد تعفيني من خطورة تأجيل قسط القرض الذي أوقعت نفسي فيه من أجل شراء بيت يقيني جشع الملاكين
ثم إني بت أعقل قليلا، ومن كثرة المجازر على الطريق لم أعد مجازفا بعد أن اشتهرت بالتهور في السنوات الماضية لدرجة أن سيارتي الرياضية لم تعد رياضية من كثرة ما أصابها على طول هذه الطرقات العنيفة، لذا أرجوكما أتركونا نعبر الطريق ونذهب إلى أعمالنا قبل أن يصر المدير على خصم ما أو إحالتنا لتحقيق بسبب التأخر المتعمد.
ها أنا شرحت حالتي، ولكن عندما انزاح أحدكما تشبث الآخر بتهوره، لدرجة أنه لم ير لا خلفه ولا جواره، حتى خرج أحدهم من صبره فتجاوز من اليمين كي يقع المحظور، وكي أعلق أنا الآن في مؤخرتك أيتها الشاحنة الكبيرة مع اثنين كانا ورائي انحشرا هما الآخرين، كل في ظهر الآخر، والحمد لله على كل حال!
تعليقات
إرسال تعليق