مطلوب جامعة حكومية جديدة
حول ضرورة إنشاء جامعات حكومية جديدة
الدكتور عبدالله الحراصي
طرق الدكتور الرائع عبد الله الحراصي قضية خطيرة، وجدت أنه من المناسب أن أعرضها هنا، ولي فيما بعد عودة لهذا الموضوع الخطير والشائك... الحراصي يستحق كل ثناء، على مبادراته الدائمة للبحث في المجتمع وقضاياه وعدم الاكتفاء بالأكاديمية، الترجمة بالتحديد....
أترككم مع المقال:
«هناك اسباب اساسية تظهر بجلاء أن التعليم العالي في سلطنة عمان قضية لا تتعلق فقط بمستقبل الأفراد في حدودهم الفردية، بل تتعدى ذلك لتكون قضية وطنية من الطراز الأول، وقضية تقع في قلب مفهوم الأمن الوطني الشامل، وهو المدخل الأساسي الذي أقترحه للنظر إلى هذه المسألة».
ينص النظام الأساسي العماني في المادة 13 (المبادئ الثقافية) على أن «التعليم ركن أساسي لتـقدم المجتمع تـرعاه الدولة وتسعى لنشره وتعميمه» وتقول المادة أيضاً «يهدف التعليم الى رفع المستوى الثـقافي العام وتطويره وتـنميـة التـفكير العلمي، واذكـاء روح البحث، وتـلبيـة متطلبات الخطط الاقـتصادية والاجتماعيـة، وايجـاد جيل قـوي في بنيته وأخـلاقـه، يعتـز بأمتـه ووطنـه وتراثـه، ويحافظ على منجزاته» و«توفـر الدولـة التعليم العام وتعمـل على مكافحـة الأمية وتشجع على انشاء المدارس والمعـاهد الخـاصـة بإشراف من الدولة ووفقا لأحكام القانون».
ما أرغب في قوله في هذا المقال هو ضرورة تحرك الدولة العمانية نحو فتح جامعات حكومية جديدة، وأن يكون هذا التحرك في أسرع وقتٍ تحت إلحاح الضرورات الموجبة لهذا التحرك، فما هي هذه الضرورات؟
لنبدأ بالأوضح وهو السبب الذي لأجله يطرح عامة الناس ضرورة وجود جامعات حكومية جديدة. يتمثل هذا السبب في أن عدداً كبيراً من خريجي المدارس لا يجدون مقاعد دراسة في جامعة السلطان قابوس، الجامعة الحكومية الوحيدة، ويضطرون إلى التسجيل فيما يتاح لهم من مقاعد في بقية مؤسسات التعليم العالي المتوفرة وفرص البعثات الحكومية القليلة. وتظل نسبة من يجدون مقاعد دراسة في مؤسسات التعليم العالي لا تتجاوز 40% من خريجي المدارس.
أما الدراسة في الجامعات والكليات الخاصة، والتي لا تقارن بجامعة السلطان قابوس في نوعية التعليم المقدم فيها، فليس في مقدور كل أبناء المجتمع. هذا الرأي العام يقول، بكلمات أخرى، أن على الدولة أن توفر جامعات حكومية جديدة لأسباب عدة أهمها أن الكثير من الناس لا يستطيعون بأي حال من الأحوال أن يوفروا المال اللازم للتعليم في الجامعات والكليات الخاصة، إضافة إلى عدم الثقة في نوعية التعليم الذي يتلقاه الطلبة في مؤسسات التعليم الخاصة، احيانا، نتيجة لأعداد الطلاب الكبيرة وعدم وجود الموارد التعليمية اللازمة.
فيما يتعلق بالمسألة المالية أرغب هنا في أن أشير إلى نقطة مهمة ذات صلة بالموضوع وهي أن علاقة الدولة بالمواطن، ومسؤوليتها عنه، هي علاقة مباشرة ومسؤولية مباشرة لا ينبغي أن تمر بالضرورة بالأسرة ومقدراتها المالية، أما في الوضع الحالي فيبدو للكثيرين أن المواطن (أي خريج المدرسة في هذه الحالة) قد ترك للحظ وتصاريف الأقدار، فإن وُلِدَ في أسرة تتمكن من تدريسه فسوف يدرس ويحصل على شهادة من جامعة أو كلية خاصة، أما إن وُلِدَ في أسرة غير مقتدرة فسيواجه مستقبله بدون تعليم عالٍ.
وهذا يقودنا إلى مسألة مرتبطة بهذا وهي أن هذه الدائرة ستدور بشكل أو بآخر عبر الأجيال، فخريج المدرسة الذي لا يجد فرصة للتعليم العالي سيعمل في وظيفة متواضعة، وإن دارت الأيام وتخرج أبناؤه من المدارس بمستوى لا يسمح لهم بدخول الجامعة الحكومية فلن يدخلوا جامعات بدورهم لأن ذلك الأب لن يملك المال الذي سيعلمهم به، وهكذا تدور دائرة انغلاق الآفاق من جيلٍ إلى جيل. وهذا نوع من الأقدار المتوارثة.التعليم العالي في عمان قضية أمن وطني، وينبغي أن لا ينظر إليها إلا من هذا المنظور. كيف؟ هناك عدة أوجه لهذا الأمر. لنبدأ بالجانب الأكثر وضوحاً وهو أن التعليم العالي يخلق للوطن مجتمعاً واعياً، ولا ريب أن المجتمع الواعي أقدر على إدارة شأنه من المجتمع الجاهل، كما أن التعليم سيوفر للمجتمع الوعي والمعرفة اللذين سيساعدان الدولة في تجنب ومعالجة كثير من المشاكل الإجتماعية مثل الأمراض والإجرام والاضطرابات الاجتماعية والسياسية وغيرها.
كما أن التعليم العالي في عمان قضية أمن وطني لأن التعليم العالي الذي ينبغي أن تقدمه الدولة سوف يوجد مجتمعاً مُنتِجاً اقتصادياً، سواء في عمان أو خارجها. أما في عمان فإن خريجي التعليم العالي بإمكانهم أكثر من غيرهم أداء أدوار اقتصادية أفضل والقيام بمبادرات اقتصادية أكثر جرأة ونشاطاً بسبب ما في يدهم من معرفة ووعي، والأمر الآخر الذي لا يقل أهمية، أن لم يكن يفوقه أهمية، هو أن هؤلاء الخريجين سوف يكونون في وضع أفضل للحصول على فرص عملٍ خارج عمان تحت حصانة الشهادات الجامعية التي يحملونها، وهو ما سيوفر لعمان، نتيجة لذلك، مصدراً مهماً من مصادر الدخل (ونحن على أبواب مرحلة نضوب النفط) وهو أموال التحويلات من الخارج. وهناك تجارب دولية ثابتة على الأهمية الاقتصادية لتحويلات المغتربين من حملة شهادات التعليم العالي (ويمكن على المستوى العربي الإشارة الى تجارب السودان والأردن ولبنان والعراق على سبيل المثال).
وأثبتت كثير من الدراسات أنه على المستوى الاجتماعي فقد كانت تحويلات المغتربين عاملاً أساسياً من عوامل القضاء على الفقر في كثير من الدول (من بينها، مثلاً، سريلانكا وجواتيمالا والمكسيك).ولا ينبغي التخفيف من عامل الكرامة الوطنية باعتباره عاملاً من عوامل صنع الأمن الشامل، وهنا فأن تقوم عمان بخلق مجتمع محصن بالتعليم العالي وأن تقوم بتصدير كفاءات بتعليم عالٍ ذي نوعية مرتفعة المستوى هو أمر يخلق مشاعر كرامة وطنية لا تقارن أبداً بتلك التي يمكن أن يشعر بها المجتمع حينما يصدر ايد عاملة جاهلة لا تملك من أمرها سوى القوة البدنية لعامل يقوم بمهن متواضعة تتطلب قوته العضلية لا كفاءته العقلية والعلمية. وبدون توسع فهذا أمر لا يخفى على اللبيب أثره وأبعاده في الإقليم والعالم الذي نعيش فيهما.
التعليم العالي هو قضية أمن وطني لأسباب مباشرة أخرى وهي أن المجتمع الإقليمي والدولي حولنا يتحرك بسرعة في طريق التعليم العالي القائم أساساً على الجامعات الحكومية وعلى تعزيز نوعية التعليم، ويمكننا الإشارة هنا إلى أن بعض الدول في إقليمنا الجغرافي قد أعلنت هذا العام عن أن ما يزيد على 90% من خريجي المدارس قد تم قبولهم في جامعات حكومية، وتحرص، إضافة إلى هذا، على تقديم العون لتوفير التعليم للنسبة المتبقية التي تقل عن 10% في مؤسسات التعليم العالي الأخرى، إضافة إلى قلة قليلة تدخل الجامعات الخاصة. هذا الوضع لن يضعنا في موضع قوة لا الآن، ولا بعد جيل أو جيلين، حين يكون مجتمعنا، الراغب في التعليم العالي، متخلفاً من هذه الناحية بمقارنته بمجتمعات فى المنطقة ستكون غالبية أفرادها من حملة شهادات التعليم العالي.والخلاصة هي أن الأسباب الأساسية التي ذكرتها مجتمعة تظهر بجلاء أن التعليم العالي في سلطنة عمان قضية لا تتعلق فقط بمستقبل الأفراد في حدودهم الفردية، بل تتعدى ذلك لتكون قضية وطنية من الطراز الأول، وقضية تقع في قلب مفهوم الأمن الوطني الشامل، وهو المدخل الأساسي الذي أقترحه للنظر إلى هذه المسألة. ولهذا، وفي ظل الأوضاع المالية المتواضعة لكثير من الأسر العمانية إضافة إلى ما يبدو من تدنٍ في نوعية التعليم الخاص، فإن المخرج الأوحد هو أن تبادر الدولة إلى خطوة حاسمة بالغة الضرورة تتمثل في الإسراع في إنشاء أكثر من جامعة حكومية ذات نوعية ممتازة في مناطق مختلفة من هذا الوطن وفي مختلف التخصصات التي يمكن أن يواجه بها هذا المجتمع مستقبله ويمكن بها أن يساهم من خلال التعليم مساهمة فاعلة في الاقتصاد العالمي، لأن التعليم العالي، من خلال الجامعات الحكومية التي سوف تضم نسبة كبيرة من خريجي المدارس، سوف يحمي أمن هذا المجتمع ويحمي أمن الدولة، ويقي المجتمع والدولة عوادي الزمان وتقلب الأحوال التي تنجم عن الجهل وعن غياب الفرص وانغلاق أفق المستقبل الفردي والمجتمعي. هذا الخيار سيحمينا على المستوى الوطني، وعلى المستويين الإقليمي والدولي، وسوف يمنحنا فائدة مضاعفة تتمثل في مجتمع واعٍ وقادرٍ على الإنجاز داخل الوطن وخارجه.
تعليقات
إرسال تعليق