الأكاذيب عندما لا تسوق جيدا

ما الذي يجعل فيلما قادرا على الرواج الشعبي والاستمرار في دور العرض دون غيره؟ هل هو الممثل؟ هل هو المخرج؟ هل هما معا؟ هل هي الإمكانيات الفنية ونوعية القصة والطريقة التي وضع فيها الفيلم؟ لربما كانت كلها الأسباب التي تجعل أي فيلم قادرا على أن يثير الكثير من الكلام، الكثير من الرغبة في التمحيص فيه، في قراءته بأسلوب مواز لقوته التي جعلته فيلما بارزا.. لكن أجد أن أهم سبب لبقاء الأفلام في دور العرض هو القدرة التسويقية له، بمعنى آخر: شركات الإنتاج والتوزيع، هذه الشركات هي من يقوم بهذه العملية "المهمة" البالغة التأثير.. لذلك لم يكن فيلم كفيلم المليونير المشرد حاضرا في البداية بدور العرض إلا بعد أن تبنته شركة توزيع وتسويق "كبرى" وضعته في صدارة الأفلام التي تتصدر شباك التذاكر في الولايات المتحدة وحدها وقبل أي مكان آخر، برغم أن أبطال هذا الفيلم الجماعي لم يكونوا أمريكيين ولا حتى أوروبيين معروفين، كانوا هنودا لا أحد يعرفهم إلا في حدود ضيقة، خاصة أولئك الأطفال (الذين تواردت الأخبار بعد ذلك بأنهم يعيشون في ظروف أقسى من الظروف التي وضعتهم في حكاية الفيلم) وبطبيعة الحال فإن الممثل واحد من العناصر المهمة جدا، إن لم يكن الأهم في سياق أي فيلم لكي ينجح، غير أن المليونير المشرد نجح ليس لأسباب تقول بأن القصة كانت جديدة على المشاهد أو ذات عواطف مشبوبة تذكرنا بأفلام لم نعد نراها، أو أن المخرج الإنجليزي دغدغ المشاعر الغربية بتلك المشاهد الصعبة والمحزنة للأحياء الصفيح التي وضعها بطريقة جد جميلة في كادر كاميرته السينمائية.. لا لم تكن هذه أسباب نجاح هذا الفيلم، بل إن عملية التسويق هي ما جعله فيلما يتصدر شباك التذاكر بل فيلما استحوذ على اهتمام الجميع بمن فيهم النقاد الفنيون، ذلك الاهتمام الذي جعله متصدرا للأوسكار، ومنافسا فذا قل نظيره في السنوات الأخيرة للجائزة الشهيرة، بل هو الفيلم الذي جعل حالة بنيامين الخاصة تخسر السباق الأمريكي، وجعلت واحد من أكثر ممثلي أمريكا حضورا ووسامة وقدرة على التأثير يقف مصفقا رغم أنه خسر.. هكذا كان براد بيت لحظة إعلان فوز فيلم المليونير المشرد بأكثر الجوائز برغم ترشح فيلمه الجميل أيضا والمبدع والخطير، حالة بنيامين بوتن الخاصة لأكثر الجوائز، وخرج بجائزتين فقط. وبطبيعة الحال فإن واحدة من اشتراطات الترشح لجوائز الأوسكار هي بقاؤه في دور العرض الأمريكية مدة معينة من الزمن واستحواذه على اهتمام المشاهدين، وهذا ما حصل عندما دعمت موقف الفيلم شركة محترفة في التسويق (لا يمكن أيضا في بعض الحالات نكران أن لحضور الفيلم أي فيلم وفوزه بجوائز معينة أسباب من خلف الستار وتدخلات معقدة من بينها وواحدة من أهمها تدخلات شركات الإنتاج والتسويق والتوزيع، برغم إنها حالات غير ظاهرة تماما، ولكنها موجودة كما صرح أحد أهم الفنانين الذين فازوا من قبل بجائزة الأوسكار) عموما لا ينبغي أن أنجرف أكثر للحديث عن سياسات التسويق، أو أهمية الدعم الذي تقدمه لأي عمل سينمائي، وما كان هو مجرد تقديم لإبراز بعض الجوانب التي جعلت من فيلم كجسد الأكاذيب ليس ظاهرا تماما على أجندة الأعمال المهمة التي أنتجتها شركات الإنتاج في هوليود، وصرفت عليه الكثير، ودعمت حضوره بوجود كادر مهم تمثل في نجمين غالبا ما يجعلا أي فيلم يدخلان في صميم حكايته فيلما ناجحا، هما: رسل كرو الأسترالي الذي مذ أن ظهر في الفيلم الملحمي (المصارع) الفائز بخمس جوائز أوسكار من بينها جائزة أفضل ممثل وهو لا يقدم إلا أعمالا تبقى في الذاكرة، برغم قلته في الظهور، بل أيضا تظهر كأفلام مميزة على صعيد الشباك وعلى صعيد النقد الفني وكذلك على الصعيد التنافسي في مجال الجوائز الكبرى، يمكن أن نذكر منها فيلمه الجميل عقل مثالي الذي كان يتحدث عن عالم حائز على جائزة نوبل في مجال الرياضيات والذي حاز به على أربع جوائز أوسكار النجم الآخر هو ليوناردو كابريو الذي خلدته سفينة التايتنك، في فيلم قل مثيله في تاريخ السينما العالمية، والذي طوال تجربته الفنية قدم أعمالا مميزة: امسكني لو استطعت مع الممثل الرائع توم هانكس، الطيار، ماس الدم، الشاطئ، القناع، الراحلون الفيلم الفائز في الدورة الثمانين ـ أي دورة العام قبل الماضي ـ بالجوائز المهمة في سباق الأوسكار: جائزة أفضل مخرج، وجائزة أفضل فيلم. هذان ممثلان لهما حضورهما الكبير لدى المتابعين سواء العاديين منهم المستهدفين دائما من إنتاج الأفلام أو النقاد أو شركات الإنتاج الكبرى.. وهذا الفيلم ـ جسد الأكاذيب ـ هو الفيلم الأول وفق ما أتذكر الذي يجمع شخصيتين بهذا الحضور، ومع مخرج فذ ولامع وله امتيازه الإبداعي هو الآخر، ريدلي سكوت، الذي قدم مع هاريسون فورد فيلم خيال علمي عد من روائع أعمال السينما في مجال الخيال العلمي وذلك في أول مشواره الإخراجي، ثم كان له ذلك التفوق الضخم مع الفيلم الملحمي المصارع والذي كان مع رسل كرو أيضا، ثم الفيلم الذي أثار كثيرا من الجدل لدينا وهو فيلم مملكة الجنة، والذي قيل وقتها بأنه فيلم يحاول أن يكون حياديا في طرحه، بل قال بعضنا بأنه فيلم أنصف العرب والمسلمين، وكثير من هذا الكلام الذي لا يثير إلا الشفقة علينا نحن العرب الذين ننظر للعالم من حولنا على أنه دائم التربص بنا وبأن هناك مؤامرة في كل المجالات ومنها الفنون، وعليه فأن يقدم فيلم متسامح كهذا (مملكة السماء) فذلك مما يجب شكره، منساقين وقتها وراء تصريحات ردلي سكوت بذاته وهو يقول بأن الفيلم يحاول أن يكون حياديا ومنصفا، وفي لحظة ما تناسينا كل مقولات المؤامرة وفرحنا بالإنصاف الفني، فيما الفيلم كان يحاول أن يعبر عن وجهة نظر أرى أنها لا تتصف مطلقا بأي حيادية، كانت فكرة خاصة بهم، وليس علينا فعليا أن نقول بأنه أنصف من عدمه، بل أن نحاسب الفيلم وفق قدراته الفنية أولا وقبل كل شيء.. سأعود لهذه الفكرة في هذا الفيلم، الذي كان يحاول أن يبرز جوهر مشكلة الإرهاب في العالم، وكيف تعاملت معه الإدارة الأمريكية، في السنوات الثمان التي هي سنوات حكم الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش.. الفيلم لم يأخذ مساحته الكافية في دور العرض ذلك أنه فيلم سياسي بالدرجة الأولى، ولأنه بالدرجة الثانية كان ينتقد بشكل واضح سياسة البيت الأبيض، في ظل حكم بوش الابن، وكيف تعامل مع فكرة الإرهاب ومحاربته.. أقول هذا الكلام جزافا ولكنها فكرة رأيتها مرة عندما عرض فيلم (في فور فانديتا) أو كما ترجمته وآمل أن تكون ترجمتي صحيحة نوعا ما: في من أجل الانتقام، الذي لم يثير كثيرا من الكلام، بل لم يثر أي نوع من الحديث الجدي، ولا حتى الحضور الشعبي، أو هذا ما يمكن أن تقوله أي شركة تسويق.. الفيلم كان يحكي عن زمن تسقط فيه بريطانيا تحت حكم شبيه بحكم النازية، فالكل مراقب والكل محكوم عليه بأن يظل مطيعا للمستشار الذي يتقاطع اسمه وشكله مع هتلر.. ثم يأتي رجل مقهور ضحية ذلك المجتمع السياسي الاستحواذي صاحب مصالح البعض الخاصة، ويبدأ في عملية تدمير البيئة السياسية وتحريض الشعب على أن يقفوا في صف واحد ضد القهر والمنع والكبت الذي مارسه ضدهم المستشار وأعوانه.. كان فيلما رائعا بكل معاني الكلمة، فيلما قادرا على أن يصل إلى أعماق الروح من خلال طرحه البصري والفني والشاعري الرائع، الفيلم الذي انتهى بمقتل البطل، والذي قال كلمته الأخيرة لأحد أعوان المستشار المقتول على يده، وهو يطلق النار عليه، في رد على سؤاله من تكون؟: خلف هذا القناع فكرة، والأفكار لا تموت تلك هي خلاصة الفيلم الذي أثبت أن الأفكار لا تموت، وأنها قادرة على كسر الإرهاب الذي يمارسه البعض تحت ستار حماية البلد من الإرهاب، وهو ما كانت الدولتان الكبريان الولايات المتحدة وبريطانيا تمارسانه أو على وشك أن تطبقانه تماما.. كان فيلما تحذيريا للأمة الإنجليزية التي عانت من ضربات النازي هتلر من أن تتحول بلادهم الديمقراطية إلى بلد أشبه بمعسكر نازي كبير وكانت تلك التفاتة مميزة للمخرج الذي أشار في حيثيات فيلمه بأنه من السهل جدا إذا وجد في بيت أحدهم مصحف حتى لو كان مسيحيا منفتحا أو غير مؤمن بالدين، أقول من السهل جدا محاكمته بتهمة الإرهاب، لأن الإسلام كان هو الدين الذي يمكن إلصاق أي تهمة به، وبأصحابه! ولا أدري لماذا لم يهتم أحد منا بمتابعة مثل هذا الفيلم الذي لم يسوق بشكل جيد، ويقول فيه بأنه حاول جاهدا أن ينصفنا بخلاف مملكة الجنة الذي لم ينصف أحدا سوى صاحب الفكرة! أعود إلى جسد الأكاذيب، الذي منعته بعض الدول العربية من العرض بحجة أنه فيلم يسيء إلى الإسلام والعرب ويظهرهم بشكل غير مريح، ويظهرهم على أنهم متخلفون وبأنهم إرهابيون مستعدون لفعل أي شيء سيء، أو هكذا كان مبررهم في عدم عرض الفيلم الذي عندما عرض بالسلطنة لم يعرض لأكثر من أسبوعين، وهي مدة تبدو جيدة مقارنة بالمدة التي ظل فيها على شباك التذاكر في الولايات المتحدة وأوروبا، ولكن يبدو أن تعتيما واضحا مورس ضد الفيلم، خاصة أنه سبق النتائج النهائية للانتخابات الأمريكية. يبدأ الفيلم بصورة غائمة نوعا ما لعمليات تعذيب يقوم بها البطل ليوناردو على ما يبدو ضد متهمين عربا ومسلمين بتهم الإرهاب.. ليوناردو عميل أمريكي متخف في البلاد العربية أو لنقل في الشرق الأوسط، ومهامه واضحة جدا في ذهنه: عليه أن يتخلص من الإرهابيين بأي ثمن، حتى لو بالكذب والتضليل والقتل: قتل المتعاونين منهم أيضا.. يطلب منه القيام بمهمة في الأردن للبحث عن رجل دين (في نظرهم صاحب أكبر منظمات الإرهاب التي ينبغي القضاء عليها، متقاطعا في ذلك مع المطلوب الأول في العالم حاليا أسامة بن لادن) وفي الأردن عليه أن يتعاون مع جهاز المخابرات الأردني لكن ينبغي أن يكون هذا التعاون غير متكافئ، إذ لا ينبغي تبادل المعلومات مع الأردنيين، وفي المقابل عليه أن يأخذ كافة المعلومات ويجند الأفراد لصالحه ولصالح قضيته مهما كان الثمن حتى لو كان الكذب هو السبيل إلى ذلك. ولأن هذا العميل يعي تماما أجواء المنطقة التي يقوم فيها بمهمته، فقد طالب مسؤوله بأن يتفهم طلبات القوم الذين يتعامل معهم، وبأنهم ليسوا سيئين كما قد يتصور أو أنهم أقل مما يعتقد، وهذا ما سيثبته الفيلم في النهاية، فنجاته من القتل لم تكن على يدي المخابرات الأمريكية بل كانت على أيدي العرب، والذين اتضح أنهم لم يكونوا كما هي الصورة المرسومة لهم: هاني سلام رجل المخابرات الأردنية رجل مترف يحب النساء، ولكن هذه الصورة تنكسر في ختام الفيلم إذ أنه الوحيد الذي أنقذ العميل الأمريكي من قبضة الأذى، ومن قبضة الإرهابي المفترض. لقد حاول الأمريكان كل الطرق للإيقاع بفريستهم أو عدوهم، بكل الوسائل، والكذب والخداع في مقدمتها، ولكنهم فشلوا في كل ذلك برغم قدراتهم التقنية التي جعلت من بريء رجلا متهما بالتعامل مع الإرهاب وتم قتله على هذا الأساس.. وفي لحظة الموت المشرف عليها العميل يتذكر أنها هي الوسائل التي كان يستخدمها في أبو غريب بذاته، مع زملائه الذين يحاربون الإرهاب، وكانت الصور تنثال في ذهنه متذكرا تلك اللحظات بالذات، والحاضرة الآن بقوة ولكنها حاضرة عليه هو بالذات. تلك هي الفكرة الأساس التي استخدمها الفيلم: انتقاد سياسة التعذيب، سياسة الغوغائية والاستعلائية التي تمارسها السياسة الأمريكية في الوقت الراهن في حربها ضد الإرهاب، وفيما هي تفعل كل ذلك، كان الإرهاب لا يقل في تلك الدول الصديقة أو المحتلة كالأردن والعراق، بل إن هذا الأسلوب لن يقدم أو يؤخر، ولن يظفر الأمريكيون بأي إرهابي في نظرهم، ما دام أصحاب الأرض والمكان مستبعدين، ومقصيين كأن لا علاقة لهم بما يحدث، فيما يمكن لهم أن يقوموا بمهام كبرى تصب لصالح الأمريكان وكما ذكرت: ليس هناك فيلم منصف ولا ينبغي أن نراه من هذا المنحنى، بل علينا أن نراه من زاوية نظر صانعيه، وصانعوه كانوا يناقشون همومهم وإشكالاتهم الكبرى، ولا يعنيهم إن جعلوا من العرب قردة أو خنازير، أو جعلوهم متخلفين كما كان في هذا الفيلم، وما دام لابد من أن يكونوا أصدقاء فينبغي أن تكون هذه الصداقة متكافئة لا علو ولا استعلاء فيها، حتى لو مع متخلف كالعرب! هذه هي الفكرة الجوهر التي قدمها فيلم جسد الأكاذيب والذي لم يحظ بذلك الكم الدعائي والتسويقي كما حدث مع غيره برغم وجود الفنانين سابقي الذكر أصحاب الحضور المهم في السينما الأمريكية وعلى رأسهم ريدلي سكوت، وبرغم أنه فيلم من الناحية الفنية يمتلك المقومات البصرية الأخاذة والأداء المحكم بكل تأكيد لليوناردو كابريو وراسل كرو

تعليقات

المشاركات الشائعة