ببطء ببطء

في بداية مشواري الفعلي مع القراءة، عندما أصبحت أملك مالا في السنة الأولى بالجامعة، وعندما حان موعد معرض الكتاب كانت رواية البطء واحدة من الروايات التي اقتنيتها في ذلك العام وفي أول معرض كتاب أقوم بزيارته بعدما كنت أكتفي بقراءات مكتبة المدرسة التي كانت عامرة بالكتب القيمة والتي ما عادت اليوم كما كانت البارحة
المهم أنني اقتنيت الرواية وليس لأني أعرف ميلان كونديرا بل لأنني انشددت إلى العنوان، وكذلك إلى كون الرواية قليلة الصفحات، فقلت ما الضير في اقنائها؟ وبدأت بها قبل ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي، وقبل كتب علي حرب التي استعارها الصديق عوض اللويهي ولم يعدها إلا في الأيام الأخيرة من الدراسة الجامعية، وقبل الطاهر بن جلون في ليلة القدر، وقبل كتب العمانيين التي كنت أبحث عنها أينما وجدت
وفي ليلة واحدة كنت أقرأ بسرعة ونهم وعندما أنهيتها قلت في نفسي لم العجلة؟ الرواية تطلب أن نقرأها ببطء شديد! فالبطء هو لذة الحياة ومتعتها الحقيقية
يا الله! كم دهشت وقتها بهذا الروائي الرائع كونديرا، وقررت أن أقرأ كل أعماله التالية، وانتظرت بفارغ الصبر المعرض الذي يليه لأقتني الجهل والمزحة وكائن لا تحتمل خفته، وهي الرواية الأروع التي قرأتها له بعد ذلك
إنه روائي من صنف آخر، قل نظيره.. حيث يكتب عن أشياء قد لا نلتفت لها مطلقا، وينطلق من حميميات لا ننتبه إليها غالبا، ونكتشف حالما نقرأ أي عمل له، بأن ثمة دهشة ينبغي علينا أن نعيشها بكل جمالية!
إذن من لم يقرأ ميلان كونديرا عليه أن يبحث عن أعماله، ويبدأ في الإبحار مع هذا اللعين كونديرا فيكتشف جماليات ممتعة في العالم الروائي الذي يبتكره..
آخر ما قرأته له: غراميات مرحة، وهي حكايات متصلة منفصلة، ولها عذوبتها الجميلة.. أذكر أني قرأتها في بيروت قبل عدة سنوات، ومن معرض الشارقة الأخير قررت أخيرا أن أقتني رائعته: الخلود، والتي كلما بدأت بها توقفت وقلت بأنه ليس الوقت الأنسب لأقرأ عملا جميلا كالخلود، فهي رواية أيضا تحتاج إلى بطء في القراءة وذهن متوقد بالحماسة لها.. هكذا أخرتها حتى أجل لم أسمه بعد، وتوجهت متعمدا لقراءة ليلة التنبوء لبول إيستر الأمريكي، وبكل تأكيد أنصحكم بقراءتها
أترككم مع هذه المقالة الجميلة التي ربما تلخص بعض جماليات البطء كرواية...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هل تمنيت أن لا تصحو على صوت المنبه المفزع، وإنما تفتح عينيك برفق ثم تتأمل السقف، وتستدير ببطء ناحية الستائر، وتبقى قليلا بالقرب من الشرفة تتأمل المارين وتبتسم في وجوههم؟هل تمنيت أن تذهب إلى الأشياء التي تخصك ونسيتها منذ زمن طويل على الأرفف، أو خبأتها في الكراتين التي لم تعد تذكر أين هي بالضبط الآن؟ هل تمنيت أن تجد وقتا لتقلب الرسائل التي بعثت إليك منذ أيام الدراسة، أو الجامعة، وبطاقات الأعياد والتهنئة؟ أن تبحث عن كتب قرأتها في وقت باكر من عمرك..ملاحظات صغيرة أو مشاغبات بريئة تركها الأصدقاء على قصاصات ورق وضعتها في مكان آمن، ولم يتسن لك الوقت أن تقرأها في وقت لاحق. أن تقلب الصور القديمة بهدوء تام دون أن تشعر أن أحدا ما يركض خلفك..هل تمنيت أن تسير حياتك ببطء أكثر مما هي عليه الآن؟ الحقيقة أنا تمنيت ذلك وبشدة خصوصا وأنا أقرأ رواية ميلان كونيرا "البطء". تمنيت أن يقف الزمن قليلا، وأن يمهلني الوقت لأفعل أشياء كثيرة.انظر إلى سيناريو حياتنا الآن ... نصحو بفزع .. نلبس ملابسنا بفزع أيضا من قصة التأخير... نضرب بأيدينا على مقود السيارة في الزحمة بغضب هائل، نرتكب الكثير من المخالفات المرورية لنصل باكرا إلى العمل... ولكن لا نصل باكرا أبدا...نفتح المذياع على الأغاني السريعة التي تحرمنا من تأمل الأشياء والعالم، أو ننشغل بهاتفنا المحمول..نصل إلى العمل لاهثين، ونخرج من عملنا أيضا وكأن ثمة من يضربنا بعصا.. نأكل الطعام وكأننا ننهي مهمة ما، وعقلنا يردد: "الوقت ... الوقت"، نضغط بشدة على أزرار "الريموت كونترول" بحثا عن شيء نريده من التلفاز، ولا نجده.. نقلب التلفاز طويلا دون أن نتابع شيئا محددا.. كانت أيام المدرسة تسير ببطء غريب، ولا نشعر أن ثمة ما يركض في حياتنا.. من الحافلة إلى المدرسة، ومن ثم إلى البيت و إلى الدروس، وأيام الإجازات إلى الحدائق، والألعاب الكهربائية. كانت أقصى أمنياتنا أن تمر الأيام بسرعة وأن نكبر بسرعة وأن ندخل الجامعة وأن نشتري سيارة جديدة وأن يكون لدينا بيت ولنا زوج وأطفال، وأمنيات لا تنتهي. ولا أدري إن كنا فعلنا شيئا جيدا جرّاء هذا الركض؟ أم أن كل ما فعلناه لم يكن إلا على حساب ذاكرتنا كما يشير ميلان كونديرا في رواية "البطء" التي تقوم على فكرة بسيطة لكنها بمنتهى العمق وهي "أن درجة البطء تتناسب طردا مع قوة الذاكرة، ودرجة السرعة تتناسب طردا مع قوة النسيان"؟؟
هدى الجهوري

تعليقات

المشاركات الشائعة