عن العباءة: حديث لا ينتهي
رغم أن البلاد كلها خلال الأيام المقبلة ستحتفل بيوم المرأة العمانية، إلا أن هذا الاحتفال يظل شكلانيا، بمعنى أن غالب المجتمع ـ والمرأة منه ـ لا ينظر إلى المرأة على أساس أنها جزء أساس، بل على أنها تابع، وعلى التابع أن يظل كذلك، أن يندس تحت جناح الرجل، هذا الذي يخرج صباحا ليأتي بالرزق والطعام والشراب
مع أن الواقع اليوم بات مختلفا، ومعطياته لا يمكن مقارنتها بمعطيات الأمس القريب ولا حتى البعيد، لكن المجتمع في غالبه، رجلا وامرأة، ما زال يصر على العيش في الماضي، يصر على أن لا يتغير، ولا أن يتوافق مع مطيات يومه
المشكلة الأعقد هي موقف النساء ذاتهن، إذ نجد نساء يرددن مقولات ذكورية، وبأن الرجل هو كل شيء في الحياة، وهو السيد الذي ينبغي أن يطاع وأن يتبعن! ينطلقن في حالات من موقف ديني محض، فالدين يشدد على ضرورة أن تكون المرأة سامعة لكلام رجلها كان أبا أخا زوجا خالا عما وليا في العموم، وهذا كلام ليس سيئا أو أنه لا يمكن أن يتوافق مع زماننا، فالأباء لهم حق السمع والطاعة في حدود، وكذلك الأهل، ولكن إذا كان الشاب قادرا على أن ينفلت من هذا القيد سواء بالبلوغ أو بالتمرد أو كونه الذي ستؤول له عصا القيادة، فإن المرأة لا يمكنها أن تنال شيئا من هذه الحقوق ولا حتى في ظل سيدها الزوج، لأن المجتمع توارث على ما يبدو حق مصادرة المرأة والعودة بها إلى الخيمة الجاهلية
حتى مسألة العباءة التي بدأت في زمن كخيار تجميلي بالنسبة للمرأة، مع الوقت أصبح لازمة دينية ومجتمعية، فالغيورون من الرجال على أعراضهم كيفوا مقولات دينية وأخلاقية تلزم المرأة أن ترتدي هذه العباءة السوداء دائما، وكلما حدث نقاش مع أحدهم حول هذه المسألة كان أسهل رد يرد به أحدهم هو أن العباءة هي ستر ديني، ولباس شرعي ملزمة به النساء، ذلك لأنه لا يستطيع أن يجابه الكلام والنقاش الطويل حول هذه المسألة بالتحديد، مسألة المرأة، مسألة لباسها الشرعي، عباءتها السواء السخيفة
بعضهم استطاع أن يجد من تلك العتمة ملاذا للتكسب، بحيث يطور السواد إلى أشكال صرنا اليوم نخاف من تلك التي ترتديها، بل بات لدى كثير من الشباب أن من ترتديها ما هي إلا فتاة قابلة للضياع، إن لم تكن قد هتكت عرض الأخلاق بالنسبة لهم، وهم بذلك يريدون عودة العتمة إلى حيزها الأضيق، برغم أن المرأة كانت اختارت الأمر من قبل، اختارت أن ترتدي العباءة، وعندما بات الواقع يفرض عليها ذلك، عمدت قلة حيلتها إلى أن تجعل من عتمة العباءة فضاء للجمال، ولكن كانت النتيجة مخيبة على ما يبدو، ففتيات كثر أضعن الجماليات واهتممن بأمور أخرى
شخصيا، ومن خلال نقاشات كثيرة، أدرك أن الحديث في مثل هذا الأمر، والنقاش فيه، يكاد يكون أمرا منتهيا، بمعنى أنه لا مجال للنقاش، لا مجال للحوار، وحتى مع كثير من النساء ذواتهن، بعضهن وصلن إلى مراحل متقدمة من التفكير والعقلانية، وكذلك من إثبات الذات على المستوى العملي
هنا أضع مقالا، يحاول أن يناقش هذا الأمر، يفتح مجالا للحوار لا أظن أنه ممكن في ظل عقليات تتمسك بحق المصادرة، وتتمسك بما يبقيها صاحبة سلطة أيا كانت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سؤال صبحي حديدي
هدى الجهوري
ابتدأتُ نهار الأمس بحوار طويل أجريته مع الناقد والمترجم السوري صبحي حديدي، ولكن قبل أن تكتمل فرحتي بإنجاز الحوار، وقبل أن أغلق المسجلة، سألني حديدي: "هل انتهت أسئلتك؟ إنه دوري لكي أسألك"، ابتسمت له وقلت: "لك ما تشاء..اسأل". توقعتُ أنه سيسألني عن الشعر في عمان، أو عن الرواية، أوعن حركة النقد مثلا، أو عن الصحافة الثقافية، توقعتُ أشياء كثيرة، ولكنه صدمني بسؤال غير متوقع: "لماذا تلبس المرأة العُمانية اللون الأسود!". صمتُ قليلا، ولم استطع أن أجيبه، ثم استرسل في حديثه قائلا: "دخلتُ متحف بيت الزبير، وقد دهشت حقا من زي المرأة العمانية، ومن جمال نقوشه وأصالته، من حرارة ألوانه؟ لماذا لا تلبس المرأة العُمانية زيها الجميل!"بالتأكيد أن هذا السؤال لم يكن يعتمل في رأس صبحي حديدي فقط، إنه يدور في رأس كل من زار السلطنة، وتعرّف على رصيد المرأة العمانية من الألوان.المسجلة كانت تلتقط حديثه المتواصل، وصمتي، تلتقط أسئلته، وأفكاري. لم أعرف تماما ماذا يمكنني أن أقول، ولكن ذهبتٌ بذاكرتي بعيدا إلى نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، لم يكن بالفعل اللون الأسود يحضر بهذه الدرجة من القتامة، كانت الأمهات والجدات، والجارات يتجولن في الحارات والأزقة بأزيائهن الجميلة، بالألوان التي تلائم طبيعة الطقس الموذي بحرارته التي لا تخفت.مازلتُ، أفتش عن إجابة، وما زال صبحي حديدي في انتظار الإجابة، والحقيقة أننا جميعا لا يمكن أن ننكر موجة التأثر الكبيرة التي جاءت من الخارج، ومرّت بها البلاد، وبلدان عربية أخرى. وإن بدت المسألة بشكل خياري في البداية أعني في ذلك الوقت، قبل عشرين عاما تقريبا، إلا أنها لم تعد كذلك. بالرغم من أن المرأة العمانية تعلمت، وتثقفت، وخرجت إلى أشكال مختلفة من المهن، إلا أنها مازالت غير قادرة على اتخاذ قرارها تجاه اللون الذي تلبسه. وليس ذلك لأنها لا تريد بقدر اعتنائها الفائق بنظرة المجتمع إليها، وبقدر ما جُعل هذا السواد لائقا، وذلك بتطويره ونقشه، وابتكار قصّات جديدة لكي لا يصبح مملا، فعلى مدار العام الواحد نشاهد ما يربو على عشر قصات من السواد، والمرأة في لهاث دائم وراء هذا الجديد، الذي يشغلها باستمرار عن التفكير باللون.الغريب أن المرأة ما أن تغدو خارج جغرافية هذا البلد، أو لنكن أكثر دقة، نسبة كبيرة من النساء العمانيات ما أن يخرجن إلى الخارج حتى يكون السواد في آخر قائمة الأولويات. وقتها تفكر في الألوان وتناسقها، وكأن المسألة لا تتم إلا في الخفاء، وبعيدا عن الأعين المتلصصة، بينما جداتنا سبقننا إلى مزج ألوان غاية في الروعة، بين الدشداشة والشيلة والسنجاف والسروال، كانت المرأة تُعنى باللون بالرغم من عدم توفر الإمكانيات لذلك، بينما اليوم تعتمر السواد، وكان هذا خيارها الذي لم تجبر عليه، إلا أنه اليوم أصبح عادة اعتدنا عليها، وأصبح من يخالفها خارج القطيع.والأسوأ أن تتكون وجهة نظر تقوم على أن يبدأ احترامنا للمرأة من السواد، كما يبدأ احترام الرجل من ذلك البياض، ومن عمامته الملونة بأجمل الألوان. فلماذا حافظ الرجل العماني على زيه إلى اليوم في العمل وفي البيت وفي السوق، وأصبح زي المرأة العمانية وألوانها في الخزانة، وللاحتفالات فقط!بالتأكيد اللون الأسود هو أيضا ملك الألوان، ويمكن أن يكون خيارا مطروحا، إلا أنه ليس معيارا للستر، والعفة، كما هي النظرة السائدة في مجتمعنا، فكم من السواد اليوم فاضحا، وكم من الألوان الأنيقة تمر باتزان بيننا.لا أدري إن كنتُ أجبتُ على سؤالك يا صبحي حديدي، لكن الأمر يستحق التفكير، وإعادة النظر بالفعل
تعليقات
إرسال تعليق