مع وزارة التربية والتعليم 2

سأبدأ من تذكر حال عايشته عندما كنت طالبا في المرحلة الإبتدائية، وهو سيكون مدخل تتمة حديث بدأته في مقالي السابق، وسأتذكر أن المدرسين الوافدين العازبين لم يكونوا يجدون عناء في المعيشة أو صعوبة في إيجاد سكنى لهم، إذ كان السكن الحكومي المجاور للمدرسة هو ملاذهم، فحضرون إلى حصصهم دون أدنى تأخير، وقد يذهبون للراحة قليلا أثناء جرس الفسحة

أتذكر ذلك جيدا، كما أعرف أن الأمر ذاته يقاس على المعلمات الوافدات في المدرسة المجاورة، ولم تكن البلدة التي سكنتها في صغري "نائية" بل كانت مدينة بها مقتضيات الحال في ذلك الوقت، بها مشفى وعيادات عمومية وخاصة، ومحلات كثيرة تقدم ما يحتاجه المجتمع من حاجات ضرورية وربما ترفيهية.

الوضع منذ ذلك الوقت تحول، وباتت مهنة التدريس خالصة بشكل يكاد يصل التمام للعمانيين فباتوا الأكثرية، ومن الطبيعي جدا أن يجد معلم نفسه يمارس مهنته في غير بلدته التي جاء منها ويفضل العيش فيها، ولكنه لم يجد "مميزات" المعلم الوافد الذي جاء قبل عشرين عاما، لا سكنى مجاورة للمدرسة، ولا مدنا تظله، بل عليه أن يعبر الوهاد والقفار ـ وكلنا يعرف حال الطريق ومآسيه ـ ليقدم المهنة السامية في منطقة أطلقنا عليها اسم "نائية"

أتساءل الآن: هل هناك علاوة غربة لهؤلاء "المتنائين" الذين كتب عليهم أن يعملوا بمهنة التدريس؟ وهل تذكر هذه العلاوة أو تستحق العناء؟ ولماذا لم توفر الوزارة المعنية السكن لهؤلاء المعلمين في المناطق التي تسمى "نائية" كما كان الحال مع مدرسي المدن في زمن من الأزمان؟

أعتقد أنه من الضروري جدا إعادة النظر في بعض الأمور، كما أننا نسمع كثيرا، بل ونعايش، عن "العشوائية" في مسألة تنقلات المعلمين إذ إنها لا تقوم على أسس الحاجة والاحتياج، وهذا ما يشير إليه كثيرون ممن هم قريبون من هذا الحقل

وكما ذكرت سابقا، فإن الفئة المتضررة الحقيقية هي الأطفال الذين تضطر أمهاتهم إلى تركهم من أجل "لقمة العيش" وليس من أجل رسالة سامية هي مهنة التدريس التي لم تعد بتلك الأهمية في الوقت الراهن، ومهما حاولت الوزارة حاليا إعادة قليل من الاعتبار لها، إلا أن الجهود تبتر بفعل فاعل، والمشكلة الكبرى أن هذا الفاعل ليس من الخارج بل هو من الداخل، من وسط التربويين أولا وأخيرا، ثم من المجتمع المحيط الذي لم يقدر المهنة حق تقديرها بل منذ البدايات كانت النظرة على أنها "وظيفة" سريعة تضمن للبنت أو الابن راتبا حكوميا شهريا جيدا، ويظل الأبناء في منازل ذويهم والدور عليهم في تحمل "المسئولية"

والمسئولية اليوم لم تعد كما كانت من قبل، بل تضاعفت مع التغيرات التي طالت المجتمع خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، إلا أنها مسئولية لا تتعدى محيط المنزل أو ربما الشارع الذي يسكن فيه ذلك المدرس، خاصة المحظوظ بأن يظل في بيت ذويه، أما المسئولية الحقيقية تلك التي تنطلق من بؤرة المدرسة فإنها مسئولية فضفاضة، بالأحرى لا وجود لها، فما يعني المعلم اليوم هو راتبه آخر الشهر، ونادرا ما يفكر في تلاميذه، وكثيرا ما يكون صاحب حق في ذلك، فمدرس اليوم مطالب بأن يكون معلما، وإداريا، ومشرفا على نشاط ما، وإنسانا مثاليا، وتربويا، ووظائف عديدة يكتسبها جراء قبوله بأن يكون معلما عليه أن يتحمل عبء ما يزيد عن ثمانية عشر حصة في الأسبوع وما يزيد عن خمسة وثلاثين طالبا في كل فصل يدخله

وفعليا تتحطم المسئولية اليوم مع أمراض عديدة يعاني منها الوسط التدريسي والمدرسي، أمراض لا تعرف تماما من المتسبب فيها، هل هو المجتمع؟ هل هي السياسات التي تنتهجها الوزارة المعنية؟ هل هم المدرسون بأنفسهم؟ لا تعرف تماما، لكن ما يمكن أن تعرفه في الوقت الراهن هو أن علينا جميعا كمجتمع ـ وليس كوزارة فحسب ـ أن نقف وقفة صريحة أمام كل الأمراض كي نتعرف إليها ونحللها ونحاول أن نجد لها الدواء المناسب، ونحدها حينذاك. أقول هذا مدركا أنه في حال صلح هذا الحقل الكبير، فإننا سنجني ثماره في الأجيال المقبلة التي أحلم بأن تؤسس بأسس صحيحة.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة