ليس في كرة القدم فحسب

لم أكن أتوقع أن تكون كرة القدم سببا في حرب بين عربيين، ولكن هذا ما حصل مع مصر والجزائر، حيث لم تكن مباراة فيها فائز وفيها خاسر ولكنها كانت صراعا "دمويا" بين المتنافسين على نقطة التأهل إلى كأس العالم وبعد أن فازت الجزائر رأينا ما حدث من حرب إعلامية شعواء ضدها من قبل مصر، وكأن المباريات لا تحتمل أي عنف في بعض الأحوال هذا إذا ما كان هناك فعليا أي عنف

أصبحت المسألة فيما بعد حربا سياسية بين الحكومتين: الجزائرية والمصرية، وصلت إلى استدعاء حكومة الفريق الخاسر لسفيرها للتشاور، إضافة إلى الأحاديث الإعلامية التي أطلقها مسؤولون "كبار" في الحكومة المرية والحزب الحاكم قلت: أمر اعتيادي برغم ذلك لما تفعله الساحرة المستديرة في كثير من البشر، برغم أن إيرلندا خسرت أمام فرنسا بالغش ولم يحدث ما حدث بين مصر والجزائر الأخوة العرب!

ولكن المسألة كما تبدو الآن بأنها ليست منحصرة في الكرة المستديرة فحسب، فعقدة المصري الأول بدأت تتضح بشكل أوسع، وعقدة المصري الذي لا يخسر الذي يكسب دائما بدت كالشمس الآن

أقول هذا الكلام بناء على ردة الفعل لدى عدد من المثقفين والمبدعين المصريين عقب إعلان القائمة الطويلة لجائزة البوكر، أو جائزة الرواية العربية، تلك ردة الفعل التي بدأها جمال الغيطاني الذي صرح بأن علوية صبح هي الفائزة وبأن المعايير مفقودة تماما فيها، ومعه أدباء بقامة إبراهيم عبد المجيد وإبراهيم فرغلي تأتي ردة الفعل هذه برغم ورود أسماء مصرية، وبرغم فوز كاتبين جميلين بالجائزة في الدورتين الماضيتين، ولكن هؤلاء الذين لم يدخلوا في الجائزة اعتبروها مكيدة، واعتبرها تآمرا على مصر وعلى الإبداع في مصر

لا أحد ينسى التاريخ الإبداعي في مصر، والريادة، والتأسيس، ولكن لو تأملنا المشهد اليوم لوجدنا أن المشهد الإبداعي في بلدان الشام والعراق والخليج والمغرب العربي واليمن يتفوق كثيرا على ما تقدمه مصر من إبداع، وهذا كلام لا ينتقص من قيمة ما يأتي به مبدعون مصريون، إلا أن الوضع قد تغير الآن، وما عادت نظرية المركز والأطراف ممكنة في وقت نعرف أن أكبر الشعراء خرجوا من العراق والشام، وبأن أفضل الروائيين قدموا من المغرب العربي والعراق والشام، وبأن أفضل كتاب القصة حاليا هم خليجيون ويمنيون

وكلمة "أفضل" لا تعني بالضرورة تقييما، ولكنها قد تعني أن الأجناس الأدبية التي ذكرتها تزدهر حاليا في هذه البقع، مع الاعتراف بأن مصر ما زالت تنتج أدباء مميزين في شتى المجالات، ولكنها لا تظهر بشكل جلي أمام ما تنتجه دول الأطراف حتى لو فاز بجوائز الإبداع كالبوكر أدباء مصريون...

ما الذي يثير هذه العقد عند المثقف المصري بالتحديد؟ عقدة التفوق وامتلاك القدرات العظمى دون الآخرين؟ مع علمنا بما يدور من هزال في الشارع المصري سياسيا واقتصاديا، ومع وجود فساد هائل في مجالات الحياة المختلفة في بلد نحبه كمصر، ونحب ما قدم ونتفاعل معه حتى لو بالاختلاف والتمايز

عموما أورد هنا بعض الكتابات التي تدور في هذا الفلك، وبكل تأكيد أتفق تماما مع كتابها الذين يشجبون ضمنا السلوك الثقافي المصري، ويحزنون على المشهد المعتم في مصر:

عن جائزة البوكر والشبهات المغلوطة

بشير مفتي

سأعترف بأن ناشري في بيروت قد رشحني لمرتين متواليتين لجائزة البوكر العربية في دورتها الأولى والثانية وإذا كان الأمر في المرة الأولى برغبتي فان الثانية كانت برغبته هو، وفي المرتين السابقتين لم أدخل القائمة الطويلة لتلك الجائزة، ولم ينل مني ذلك أي شيء، ليس لأنني أشعر بأن كتابتي لم تحض بالتقييم المناسب، ولم يدخلني الشك في تقييم النقاد العرب الذين اختاروا حسب مقاييسهم طبعًا الأعمال التي رأوها جديرة بالبقاء فالأمر في النهاية يبقى جائزة أدبية، أي لا يمكن أن نتفق حول معاييرها دائمًا مثلما يحدث مع مختلف الجوائز العالمية الكبرى كغنكور الفرنسية التي يثار دائمًا جدل حول الأعمال والكتاب الذين يفوزون بها، حتى أن كاتبا فذا على كل المستويات مثل محمد ديب، لم يحصل عليها، وحصل عليها كتاب أقل موهبة منه بشكل لا يناقش، ورحل محمد ديب دون أن يتحسر على ذلك، مثلما هو الأمر مع كتاب عالميين كبار لم يحصلوا على جائزة نوبل وهم أحق بها من أسماء كثيرة حصدتها لأسباب أو لأخرى، إن هذا ما يشكل الجانب الإشكالي في الجوائز التي على أهميتها تبقى مرتبطة بتقييم معين ونظرة محددة، قد نتفق معها وقد نختلف، ولهذا نجد في جميع الدول عددا كبير من هذا النوع فإذا قصرت لجنة جائزة معينة في تقييم عمل أو أهملته تأتي الجائزة الأخرى لتصحح هذا الخطأ، وهذا ما حدث بالفعل مع جائزة رونودو الفرنسية التي يقال أنها أنشأت لتصحح أخطاء الغونكور.

قد يختلف الأمر كثيرا في عالمنا العربي الذي تسوده الفوضى في كل شيء، والتي يطمح كتابها الذين يعانون من مشاكل التهميش حتى في بلدانهم ومن مشاكل ضعف القراءة بشكل مفجع، ومن الحق في الاعتراف بهم من طرف الآخر الغربي بشكل خاص، والفوز بلحظة شهرة بسيطة أمام الكاميرات والفضائيات كالمشاهير تماماً أن يشعروا بان على جائزة البوكر دور أكبر مما قد تتصوره حتى هي عن نفسها، ولكن هذا لا يمنع كذلك من القول أو التأكيد على أن البوكر في نسختها العربية لا تتحمل هذه المسؤولية، وأننا نحن من نريد تحميلها إياها لا غير نتاج حرمان كبير يعيشه الكتاب العرب بكبارهم وصغارهم، وهم ينتظرون أي قشة للنجاة من واقعهم ذاك.

الأمر الذي لفت انتباهي في الطبعة الأخيرة من هذه الجائزة والتي لم أشارك فيها بصراحة متعمدا أن لا أنشر حتى روايتي الجديدة إلا بعد أن ينتهي وقت الترشيحات ليس تهربًا من المسابقة أوالمنافسة ولكن لإيماني الشخصي بان عدم الحصول على أي جائزة يغني الكاتب أيضًا، ويفيده من حيث يدري أو لا يدري فهي تساعده على البقاء في تلك اللحظة الملتبسة والمثيرة، وعلى الأقل يطور عمله في صمت، وحذر، أو يعيش كتابته بصدق خارج الأضواء المزيفة والتي تأتي على الكثيرين أحيانا بالوبال الكبير، وتتركك في مأمن من الكتابة بحسب مقاييس معينة تصلح لهذه الجائزة أو تلك.

قلت ما أثار انتباهي في هذه الطبعة الجديدة بعد ظهور القائمة الطويلة هو تحامل بعض الكتاب ممن لم تظهر أسماءهم في تلك القائمة وخاصة من الكتاب المصريين، وقادهم ذلك إلى حملة منظمة أو تكاد تكون منظمة للتشكيك في مصداقية الجائزة ومصداقية من يعملون فيها ولجنة تحكيمها التي لم تعرف بعد، والتشكيك في نزاهتها، فقط لان ثلاث كتاب مصريين أكن لهم بطبيعة الحال كل التقدير والاحترام هم ابراهيم فرغلي، وابراهيم عبد المجيد، وعلاء خالد لم يظهروا في تلك القائمة، مع أن القائمة ضمت مصريين آخرين مثل قنديل ومنصورة عز الدين، ولكن ربما لان عدد السعوديين واللبنانيين تفوق على نسبة المصريين لأول مرة، ودخول اسم جزائري واحد هو روائي شاب ومتميز اسمه سمير قسيمي المنافسة اقلق المركزية المصرية فجأة، وجعلها تثور، وحتى تشكك، وأخيرا تتهم المؤامرة على الإبداع المصري الفذ، وتريد أن تحرم حتى كاتبة مميزة مثل علوية صبح من إمكانية النجاح بهذه الجائزة في هذه الدورة من خلال التشنيع بصفقة وهمية عقدتها الكاتبة مع الشاعرة اللبنانية جمانة حداد، ولجنة التحكيم التي لا نعرفها..

ما الذي يعبر عنه موقف كهذا؟ شارك فيه كتاب كبار مثل جمال الغيطاني، وابراهيم عبد المجيد، وابراهيم فرغلي مع احترامي الشديد لهم حتى لا يساء فهمي، وغيرهم إما بالتلميح، أو التهجم صراحة، لنترك نرجسية الكتاب التي لا تعنينا هنا، وهي مقبولة ومشروعة عند أي كاتب يشارك في مسابقة ولا تنال روايته المكانة التي يتمناها هو لها ولكن الأمر الملفت للانتباه بشكل خاص هو أن هؤلاء الكتاب يشعرون بأن مصر روائيا أحسن من كل دول العالم العربي، أو أن مصر هي زعيمة الرواية العربية بلامنازع، وأنه لهذا السبب يجب أن يكون عدد الفائزين من مصر أكثر من غيرهم لأنهم يشاركون بأعداد غفيرة وهذا صحيح، ولكن متى كان الكم مقياسا لتقييم الكيف؟ فإذا كانت مصر مهمة للإبداع الروائي العربي من جهات عدة فهي بطبيعة الحال لا تحتكر هذا الإبداع، ولن تقدر على احتكاره، وذلك لسبب بسيط أن الإبداع الروائي العربي متعدد الألوان والمشارب وأحيانا تجد في النهر ما لا تجده في البحر.

أعود وأقول أنه مثلما قلنا عن مقابلة الجزائر مصر في أم الدرمان ما هي إلا لعبة اسمها كرة قدم ولا تحتاج إلى كل هذا الصهيل والعياط المثير للشفقة قبل التقزز، أن البوكر ما هي إلا جائزة أدبية لا غير، لاتحتاج لتحميلها أكثر مما تحتمل، ولنخرج من منطق المركزية الموهومة التي لم تعد ربما موجودة إلا في أذهان بعض المصريين، وليس كل المصريين طبعاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثقافة المكائد

عبده وازن

إذا كان إعلان اللائحة الأولى أو «الطويلة» لأسماء الفائزين بجائزة «بوكر» للرواية العربية قد أثار هذا القدْر من الضوضاء أو اللغط، فما تراه سيُحدث إعلان اللائحة القصيرة لاحقاً ومن ثمّ إعلان اسم الفائز؟

لا بدّ للجوائز الأدبية، كما هو شائع، أن تحدث سجالاً في أوساط الأدباء، يقبلها بعضهم ويرفضها بعضهم، وقد لا تبالي بها قلّة تجد نفسها خارج حلبة هذا «الصراع». هذا أحد شؤون الجوائز التي يتبارى حولها الأدباء، طمعاً بشهرة أو مالٍ ونجومية... كأنّ الجائزة هي التي تتوّج تجربة الكاتب أو مساره، وكاتب بلا جوائز يظل في نظر الكثيرين - وربما في نظر نفسه - كاتباً غير مكرّس، وينقصه «اعتراف» هو بمثابة الوسام الذي يعلّق على صدره. وكم من كتّاب يُرفقون سيرهم الذاتية الموجزة بما حصلوا على جوائز أو أوسمة وفي أحيان يقدّمونها على أعمالهم نفسها. وهذا ما يعتمده الناشرون عادة، في العالم أجمع، فالجائزة والوسام يغريان القراء ويزيدان من مبيع الأعمال المنشورة.

إلا أن الجوائز تظل أمراً خارج تخوم الأدب، إنها تلي العمل الأدبي، تزيّنه ولا تكمّله، وهي تالياً، لا تستطيع أن تصنع أدباء. ولعلها تسقط على مضيّ الأيام ويظل الأدباء، إن كانوا قمينين في أن يظلّوا. والأسماء كثيرة في هذا القبيل، وبعضها لم ينل جائزة ولو صغيرة ولا نصف وسام، لكنّ هؤلاء المحذوفين من لائحة «التكريس»، كان لهم الأثر الأعمق والأشمل وقد صمدوا أمام سطوة الزمن الذي لا يرحم.

هل يحتاج الصراع على جائزة «بوكر» للرواية العربية أن يسقط في مثل هذا الدرْك من الانحطاط؟ هل يحتاج هذا الصراع أن ينقلب الى ما يشبه النميمة والحسد والغيرة القاتلة؟ هل يمكن أن يبلغ السجال الذي دار حول «بوكر» منذ إعلان اللائحة الطويلة، ذروته، دساً وتشهيراً؟

لعلّ ما يدعو الى الأسف حقاً، وقوع بضعة أسماء مرموقة في شرك النمائم والدسائس، وأحد هذه الأسماء روائي مصري هو أرقى من أن يهبط الى هذا الدرْك من الإسفاف. إنه فعلاً أهمّ من أن يمنح جائزة، بل إن ما من جائزة قادرة على أن تضيف الى رصيده الروائي ولو أنملة، فأعماله، أعماله وحدها هي التي كرّسته، مصرياً وعربياً. كان ردّ فعل هذا الروائي مفاجئاً حقاً عندما لم يجد اسمه مدرجاً في اللائحة الطويلة لجائزة «بوكر». هبّ وانتفض واعتبر أنّ في تغييب اسمه مؤامرة ضدّه أولاً ثم ضدّ مصر، وربط بين هذه المؤامرة والخسارة التي مني بها الفريق المصري في مباراة كرة القدم أمام الفريق الجزائري. ولم يتوان عن تدبيح مقال نشره في إحدى الصحف المصرية الأدبية العريقة، معلناً احتجاجه على لجنة الجائزة وقرارها، وفي ظنه أنّ في إسقاط اسمه هزيمة له، شخصية ووطنية. وراح يتوهّم أن مكيدة حيكت ضدّه وضدّ مصر، وأن اجتماعاً سرّياً عُقِد لإبعاده وإبعاد الأسماء المصرية المهمّة، فتخلو ساحة «بوكر» لمن شاءت اللجنة أن تدعم فوزهم. هذه مخيّلة غير طبيعية، ولا أحد يدري من أين أتت بهذه المزاعم الهزيلة، وكيف ركّبت هذا «السيناريو» الركيك. دوماً هناك مكائد في حياتنا الثقافية العربية، دوماً هناك ألاعيب ودسائس وأعمال تآمر. لا أحد يتواضع قليلاً ويرضى بأن يكون اسمه في لائحة «الخاسرين»، إذا اعتبرنا أن عدم الفوز بجائزة أدبية هو بمثابة خسارة. الجميع يريد أن يفوز. الجميع يرفض أن يخسر. الجميع يريد أن يكون مكرّساً، حتى وإن لم يكمل الأربعين. وأغرب ما قرأنا في الآونة الأخيرة ما ورد من إشاعات ربطت بين مسابقة الكتّاب العرب الشباب «بيروت 39» وجائزة «بوكر»، وقد عمد مروّجوها الى حبك قصّة خيالية، أبطالها من أعضاء اللجنتين في المسابقة والجائزة، وقد التقوا بحسب هذه الإشاعات، سرّاً لتسمية الفائزين، في المسابقة والجائزة. هذا ما يدفع الى الضحك فعلاً. إنها روح «المؤامرة» التي لا توفّر ظاهرة أو بادرة أو جائزة... هناك دوماً متآمرون وهناك دوماً ضحايا مؤامرة...

الفوز بجائزة، كما عدم الفوز بها، لا يصنعان شاعراً ولا روائياً. هذا ما يدركه الجميع، حتى بعض «الخاسرين» الذين يرفضون تقبل مبدأ الخسارة. حتى الكتّاب الشباب بمعظمهم يعلمون أن فوزهم أو عدم فوزهم سيّان عند الآخرين، قراء ونقاداً. فمشروعهم أبعد من أن تحدّه جائزة أو «انتصار». المهمّ أو الأهم هو النصّ، النصّ أولاً وأخيراً. الجائزة تأتي لاحقاً. لا أخال أن شعراء فتياناً مثل رامبو ولوتريامون ونوفاليس كانت تهمّهم الجوائز وأنّهم فكروا بها يوماً.

لا أظن أن شاعراً مثل أنسي الحاج حلم بجائزة عندما أصدر ديوانه «لن» وكان في مقتبل الأعوام العشرين. رفضت إحدى الشاعرات «الخاسرات» في مسابقة «بيروت 39» أن تصافح أحد أعضاء اللجنة لأن اسمها لم يرد في قائمة الفائزين. وقامت قيامة كاتب شاب لأنّه لم يفز في المسابقة، وكان هو يتوقع الفوز لأنه يعدّ نفسه أهم أبناء جيله...

وإن كانت «حماسة» الشباب دفعت بعض الخاسرين في مسابقة «بيروت 39» الى مثل ردود الفعل الغاضبة هذه، فالمفاجئ أن يكون ردّ فعل الروائي المصري الذي سقط اسمه من لائحة «بوكر» الطويلة، مماثلاً، في غضبه وصبيانيته. وليته لم يكتب مقالته التجريحية بمثل هذا الانفعال المضطرم، كي يتحاشى الأخطاء الفادحة التي ارتكبها، صرفاً ونحواً، والركاكة الشنيعة التي اعترت جمله المتفلّتة من أي قيد لغوي أو عقال.

تعليقات

المشاركات الشائعة