طالب ومعلم وأسرة ووزارة

أتذكر عندما كنت في سنواتي الأخيرة من مرحلة الدراسة ما قبل الجامعية، كان يروج بشدة للنظام التدريسي الجديد: النظام الأساسي، الذي بموجبه سيتم تغيير مفاهيم تربوية وأسلوبية كثيرة في الحقل التدريسي. أتذكر أنني سأكون خارج المنظومة الجديدة، حيث المدارس التي سيكون فيها الوقت ممتدا حتى الثانية ظهرا، وستكون هناك فسحتان، وستكون هناك مختبرات متعددة، وسيتعلم الطلاب أساسيات الحاسب الآلي، وستكون حصص التربية الفنية والتربية الموسيقية والتربية الرياضية أساسية، ولن يأتيك مدير المدرسة في حصة جميلة جدا تحبها للغاية وهي حصة التربية الفنية ليقول: سنحول هذه الحصة لمادة أخرى كاللغة العربية مثلا، أو الرياضيات، أو استبدالها بحصة عامة لترسيخ مفاهيم الصحة والنظافة المدرسية (خاصة مع اقتراب مواعيد المسابقة التي تقام كل العملية التربوية على هامشها)
كنت أتحسر بالذات على حصة التربية الفنية، المادة التي كنت أظن لحين تخرجي آنذاك أنها ستكون كل مستقبلي اللاحق.. أتحسر لأن حصتين في الأسبوع لم تكونا كافيتين لي، ولأنني كنت أريد أن أرسم، أكثر من أن أفهم لماذا أبا خالد دمر بيت أحدهم؟ لماذا حدثت معركة النهروان؟ لماذا انهار العالم الإسلامي أمام المغول؟ لماذا سين وصاد يلعبان بخفة في ملعب احتمالات الرياضيات؟ كانت الحصة الأجمل، وكان معلمو هذه المادة بالتحديد هم أصدقاء أكثر من كونهم يعلمونني "الشخبطة" على الورق. كنت أتساءل: لماذا يصر المدير على أن يضحي بالحصة من أجل أن يذهب المدرس للورشة ليعد نموذجا للوحة تهدى لمدير المنطقة التعليمية، أو توضع على مدخل الباب عندما تأتي اللجان المختلفة؟
ولذلك كنت أؤيد النظام الأساسي للتعليم، النظام الجديد الذي سيتخلص من عقد الدونية لمواد مهمة كالفنون والموسيقى، ولم أكن أعلم أن الزمن سيدور دورته لأكتشف أننا لا نجيد تطبيق المناهج إلا من خلال قشرتها الخارجية فقط
ماذا يعني أن يدرس الطلاب سنوات وسنوات، دون أن يكون لذلك معنى؟ هم ينجحون سنويا، ولا يجدون أي صعوبات تذكر، هم يجدون أن النظام الجديد لا يسألهم: لماذا درجاتك متدنية؟ بل ربما لو تجرأ المعلم ليسأل لكانت تلك تهمة تمييزية لذلك الطالب لا قدر الله
المعلمون بدورهم اكتشفوا خيبة الأمل، ليس في تطبيق النظام فحسب، بل في إدارتهم. ها هم يفقدون قيمة المعلم الذي إن مشى في حارة من الحارات حتى يحتاط طلابه المشاغبون فيتجنبون ألا يلقوا عليه سلاما كي لا يأتيهم تعنيف أو رسالة زجر إلى أهليهم
الأهالي استكانوا لإبرة التخدير: النجاح المتواصل، وظن كثير منهم أن أبناءهم هم المثاليون، برغم أن كثيرا من هؤلاء الأهالي هم متعلمون، متعلمون لا يتابعون ما يقوم به أبناؤهم، ولا يعنيهم حالهم في المدارس ولا يتفرغون له لأسباب كثيرة جدا، الحياة الجديدة فرضتها، وفرضت معها أن تكون أغلب الأمهات ـ خط الدفاع الأهم عن هذه الأجيال ـ مرتبطات بالعمل والشقاء من أجل كسب عدة ريالات لبناء البيت لتسديد ثمن الحياة الجديدة، لشراء بحث معلب، لجلب معلم خصوصي، لفاتورة الهاتف والكهرباء..

صحيح لم تعد الحياة كما كانت، ولكن هل يعني أن نفقد أشياء جميلة كاحترام المعلم؟ ما النتيجة المتوقعة لذلك؟ ما المتوقع عندما يتم إهانة المعلم جهارا؟ أليس فيما يحدث الآن؟ في السلوكيات غير المتحضرة، في الحرق والتدمير؟ في إعلاء الصوت بما لا يفهونه: إسقاط الوزيرة؟
لقد ضاع النظام التربوي تماما، وباتت العملية التربوية جزءا من تهريج سيجني نتيجته المجتمع في آخر المطاف.
والمشكلة أن كل الأطراف هذه المرة تشترك في المسئولية عما حدث، فحتى المعلمون الأجلاء المحترمون، هم مساهمون بدرجة كبيرة في ضياع هذا النظام التربوي، عندما تجد معلما لا يمارس عمله بجدية، عندما تجده يتعامل مع مهنة التدريس وكأنها مهنة كأي المهن، فلا يشكل إلا قدوة سيئة للطلاب، بل قد يمارس سلوكيات أقل ما يقال عنها بأنها قذرة!
حتى أولئك الذين يطالبون بعودة مسمى التربية الإسلامية بديلا عن الثقافة الإسلامية لا يهمهم إلا فرض رؤية أحادية، مع أنني شخصيا لا أجد فرقا كبيرا بين المسميين، فالمهم هو المعلومات والأساليب، وليست المسميات.  وكثير من معلمي الإسلامية هؤلاء لا يمتون لصفة التعليم بصلة، ولا أتحامل هنا عليهم مطلقا، وإن كان كثير منهم بمناداته زيادة حصص التربية الإسلامية يسعى إلى تشكيل وعي ديني وثقافة إسلامية تحصن الطلاب من سلوكيات سيئية فلا بأس، بل هذا هو المطلوب، فالثقافة الدينية الرصينة جزء من الهوية التي ينبغي المحافظة عليها دون مغالاة أو انتقاص
لكن بعضهم، وهم كثر، يرعى أن هذه الزيادة لابد أن تقضي على حصص أخرى كالفنون أو الرياضة وربما حتى العلوم، لأن العلم فقط في تدريس علوم الدين والفقه والعقيدة، وكأننا نعيش في زمن سابق، لا زمن يعتمد على استغلال الفكرة اللامعة من أجل إنشاء مجتمع قوي، هؤلاء يريدون أن يفرضوا كلمتهم من مبدأ حماية الإسلام، والإسلام لم يحم نفسه إلا بالحريات والتسامح والحوار مع الآخر أيا كان.
وفي هذا السياق أيضا وعندما تمت إعادة حصص التربية الإسلامية وتكثيفها أكثر من السابق، نجد أن الوزارة قضت على مادة هي المهارات الحياتية في الصفين العاشر والحادي عشر، وكلفت مدرسي هذه المادة أن يكونوا معلمي تربية إسلامية، من باب أن أكثرهم فعليا كان خريج تربية إسلامية لم تجد له الوزارة سابقا إلا مادة مهارات حياتية
لكن ليس كل هؤلاء أولا مهيأ لأن يكون معلم تربية إسلامية (حتى العاملين في هذا الحقل بالذات) وثانيا: كثير من هؤلاء الذين درسوا المهارات الحياتية لم يتخصصوا في التربية الإسلامية فكيف بهم اليوم يذهبون إلى تدريسها؟ حل تبتكره الوزارة يحدث مجددا خللا جديدا، ولا ندري ما العاقبة فيما بعد
هل سيخرج الطلاب مجددا ليحرقوا المدارس ويقولون: تسقط مديحة؟ ومن مديحة أصلا؟ أليست واحدة من هذا الحقل التربوي عايشت كثيرا من فشله ونجاحه وإخفاقه وارتقائه؟ ألم تتعين قبل عام واحد فقط، بل لم تكمل العام؟ فكيف لها بأن تحل كل مشكلات هذه الوزارة العتيقة؟ إنها لا تمسك عصا سحرية، ولا تمسك عصا أصلا كي تضرب الطلاب الذين لم يجدوا تربية صالحة فكانت النتيجة سلوكيات سيئة..
هكذا سندور في فلك دائرة لا نهاية لها، ربما لا خروج منها، إذا كان كل من فيها غير مستعد لأن يفهم كيف يمكن له أن يحل من الإشكاليات التي تولدت عبر سنوات، وربما تكون سنوات اجتهاد يؤجر صاحبها.. ..



المقال التالي نشر اليوم في ملحق أنوار الصحفي التابع لجامعة السلطان قابوس والصادر عن جريدة الوطن:


طالب ومعلم وأسرة ووزارة
حتى الطلاب، طلاب المدارس، يحتجون، ويرفعون شعار إسقاط الوزيرة (التي لم يمض عليها عام في وظيفتها الحالية، والتي أظن ومن خلال معطيات تحاول قدر المستطاع أن ترفع من قيمة المفهوم التربوي، وتعيد التوازن والفعالية إلى إحدى أكبر المؤسسات الحكومية في السلطنة: وزارة التربية والتعليم) وكل هذا لأنهم "فشلوا" في اجتياز امتحانات كان أترابهم في السنوات الماضية يجتازونها حتى وإن لم ينجحوا فيها!

غاضبون للرسوب، لأنهم لم ينجحوا، ولأنهم أحسوا بأن تغريرا ما حاق بهم كل تلك السنوات التي مضت، وآن وقت اكتشاف الحقيقة، والحقيقة مرة جدا، إذ إن النتيجة ليست رسوب هؤلاء الطلاب وحدهم، بل الآباء والمعلمون أيضا، وبالطبع تطبيق النظام، إذ أن الأنظمة ليست هي الخطأ بمقدار الطريقة التي نطبق فيها النظام أيا كان.

لماذا قد ينجح نظام تربوي كالنظام الأساسي في بلاد كأمريكا مثلا ويفشل تطبيقه في عمان؟ بكل بساطة لأن أمريكا ليست عمان مطلقا، لا ثقافة ولا فكرا ولا نظاما ولا حتى تاريخا

الأمريكي رب الأسرة سيكون مشاركا في المسار التربوي ولن يلقيها فقط على المدرسة، على المعلم، والمعلم هناك لن يكتفي بما تمليه عليه الاعتبارات الوظيفية بل سيسعى في كثير من الأحوال إلى توصيل المعلومات الدراسية بشكل مفيد

ماذا يحدث لدينا نحن؟ العكس تماما: وجدت الأسر العمانية أبناءها ينجحون باستمرار، مما يعني أنهم متفوقون ولا خوف عليهم ولا يحزنون، ووجد المعلم العماني ـ ليس كلهم ـ أن الأعباء الإدارية والتكاليف الإضافية تدفعه إلى أن يطلب من الطالب القيام بأي بحث، المهم تسليم مادة بحثية لن يقرأها في كل الأحوال، ولن يجاري الطالب في حال أنه غضب، لأنه يدرك تماما أنه سيكون المذنب مترسبا في ذاته أن هيبته وقيمته قد تساقطت، والأسوأ أن كثيرا من الأولياء لم يعودوا كآبائهم يساندون المعلم حتى وإن كان مخطئا

الوزارة بدورها شجعت مثل هذا الأمر طوال السنوات الماضية، وكان الخبراء والمشرفون والعارفون ببواطن الأمور يؤكدون النجاح المتواصل، ربما لأسباب شخصية تماما، ويتم حجب الحقائق التي تقول بأن ثمة أخطاء واضحة في تطبيق هذا النظام

كانت مثل إبرة تخدير استفاق منها الجميع مؤخرا، ولكن النتيجة هي نماذج لا تؤسس لخير الوطن، فالتخريب وتدمير الممتلكات العامة التي هي لنا لا لأحد آخر

هؤلاء الطلاب لم يجدوا ما هو أهم من التعليم الجيد، والأهم هو السلوك التربوي الحقيقي، من البيت ومن المدرسة، لذا لا تستغربوا كم الحوادث اليومية التي ترتكب في الشوارع، والتي قوامها شباب لم يتجاوزوا السادسة أو الثامنة والعشرين من العمر، ممن تعود "النجاح" في كل شيء، ولم يواجه "فشلا" واحدا في حياته، وإذا رفضته فتاة أحلامه ـ مثلا ـ قد ينتحر!

الآن لا فائدة ولا طائل من هذا الكلام، بل علينا أن نفكر في الحلول، وأولى الحلول تأتي من البيت، من الأسرة المتعلمة التي توفرت لها فرص جيدة للتعليم، عليها أن تنتبه إلى الأبناء وضرورة تربيتهم التربية الصالحة القائمة على المبادئ القديمة التي تعلمنا جميعا عليها. ثم يأتي دور المدرسة، دور المعلم بالدرجة الأولى، الذي ينبغي عليه أن يفهم أن التدريس ليس وظيفة ككل الوظائف تنتهي بنهاية اليوم الدراسي.



هلال البادي



تعليقات

  1. لا ارى المشكلة في شيء إلا في الأساس وهو الأسرة اولا ثم اولا. فالتربية تبدأ من عمر الزهور وليس عندما يدخل الطفل المدرسة.
    فعندما يتلقى الطفل كل شيء فيما قبل السبع سنوات ، يكون جاهزا لكي يخرج فيما بعد السبع سنوات وهي فترة دخول المدرسة ، فهي فترة مهمة بكل تأكيد.
    الأسرة اولا ... يأتي بعدها دور المدرسة في عملية التوجيه والتعليم ، ثم الوزارة التي تتولى دعم المدارس والمدرسين بالآليات التي توجههم لما فيه مصلحة الطالب والعلم والوطن فقط.

    ولكن اقول:
    اذا لم تتوفر لدى الأسرة كمية من التعليم الكافي كي يخرجوا نشئا قادرا على العطاء ، فالأوجب ان توفره المدرسه ، وان لا تترك الطفل هكذا فقط كي يدرس ... بل توفير السبل اللازمة لكل تلك المشاكل ، واعطاء الطالب اهمية واحتراما يذهب ويطبقه في بيئته المنزلية والخارجية. وكل ذلك منوط بما توفره الوزاره من امكانيات وصلاحيات للمعلم والمدرسة :)

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة