العقدة إياها تحل المشكلة

هل الأطباء محقون في الإضراب؟
أقول بأنهم محقون تماما، فمن يقرأ مطالبهم يجد أنها مطالب كل عماني، وليست معنية بهم هم وحدهم، مع أني شخصيا ومنذ زمن بعيد أتساءل لماذا يعامل الطبيب ـ وهو من هو ـ هذه المعاملة التي تفقده بعضا من إنسانيته وكرامته، عندما يعمل لمدة ثلاثة أيام متواصلة ويعطى نظيرها مالا قليلا في هيئة راتب لا يغني ولا يسمن من جوع؟ لو كنت مكان مثل هذا الطبيب لدعيت على تلك اللحظة التي توهمت فيها أن الطبيب يناله الخير العظيم عندما يخدم الإنسانية! كنت سأترك الإنسانية تموت كمدا وغما وأبتعد بعيدا عن هذه المهنة التي تأكلني ولا تبقي مني على شيء!
وأتساءل أيضا: هل مهندسو النفط والمحاسبون والمحامون والقائمون على البنوك أهم من الطبيب؟ أهم لدرجة أنه لا يجد الحافز الذي يجعله يتقبل داخليا تلك التضحية الكبيرة التي يضحيها في سبيل علاج الناس؟
ربما الأطباء أفهم بحالهم أكثر مني، ولذلك لن أتوقف كثيرا عند هذا الأمر، وأعود إلى النقطة التي انطلقت منها في مقالي الماضي: الإدارة، التي بها يمكن أن نحل معظلات كثيرة في قطاع الصحة، بل في كل القطاعات
لو أن لدينا حسا إداريا هل تفاقمت مشكلة مستشفى النهضة إلى الحد الذي وصلت إليه؟ إلى الاكتشاف المؤسف بأن معداته التي تكلفت ملايين الريالات غير مؤمنة؟
لو أن هذا الحس الإداري كان مضبوطا وجيدا، هل كان المستشفى النفسي الجديد سيرمى في آخر الدنيا، حيث ما تزال المنطقة في أول طريق تعميرها، ولا أمل في أن نرى "بيت شعر" قد ينبت في المنطقة التي يتم البناء فيها حاليا ولو بعد عشر سنين
هل لهذه الدرجة يتخوف بعضهم من مريض نفسي؟ ألا يدرك هؤلاء أن أول طرق علاج هذه الفئة هي بإدماجهم في المجتمع؟ بل ألا يدرك هؤلاء الذين يخططون بأن المرضى النفسيين هم أناس كبقية الناس وبأن أمراضهم غير معدية؟ لماذا إذن لا يعزلون المصابين بالسكري مثلا في مستشفيات بعيدة؟ أو مرضى القلب أو السرطان؟
ولو كان هناك حس إداري جيد هل كانت ولاية مثل العامرات ـ وهي المحاصرة بالأودية وسوء التخطيط، تخطيط الشوارع والأسواق، التي ينتظر أهلوها شارعا يبنى منذ أكثر من ثلاث سنين ـ خالية من مجمع صحي لا يضطر سكانها إلى تجشم الصعاب المسائية واجتياز شارع هو "تحويلة" للوصول إلى مستشفى النهضة؟ ماذا عن أيامهم أيام الأمطار والأعاصير والأنواء أو في لحظات إغلاق المعبر الأقرب للمستشفى؟ هل يضطرون إلى صعود شارع يحتاج بحد ذاته إلى كلام مطول؟
الأمر ذاته يقاس على منطقة كالخوض التي من مدة قريبة فقط افتتح فيها مجمع صحي بعدما كان ـ وما زال ـ أغلب المرضى يذهبون في أوقات غير الدوام إلى طوارئ المستشفى الجامعي المنفصل إداريا عن وزارة الصحة، والمصمم ليكون مستشفى تعليميا قبل أن يكون مستشفى يفتح أبوابه الضيقة للناس الكثيرة
إنها فكرة إدارية لو أحسن أصحابها التعاطي معها لكن يمكن أن تخف الشكوى، ومن الطبيعي جدا أن لا تختفي، لأن الناس لا يمكن لها أن تصل إلى درجة الكمال مطلقا، وهو ما يقاس على أناس وزارة الصحة.

* * *
هذا لا يعني أن تكون الشكوى مبالغة.
فمثلا لا يمكن لعقلي تقبل أن يلقى بالذنب على وزير الصحة والمسئولين في وزارة الصحة فيما حدث لمستشفى النهضة، لا يمكن أن أتقبل الكلام الذي يتم تناقله بأن سوء التخطيط هو الذي دمر هذا المستشفى، سوء تخطيط وزارة الصحة بطبيعة الحال. إذ لو كان هذا الكلام صحيحا فلماذا لم يتدمر المستشفى من قبل؟ في ظرف أقسى من ظرف الأمطار الاعتيادية التي مرت بمسقط قبل عدة أشهر؟ لماذا جونو لم يفعل شيئا وهو الأشد والأخطر؟ ومن بعده فيت مر مرورا عابرا لا أكثر ولا أقل..
كان هذا المستشفى في موقع "جيد" ولكنه لم يعد موقعا مناسبا بعد أن كلفت الجرافات ومعدات التشغيل والطرق لإنشاء طريق مهم وحيوي هو طريق العامرات بوشر، هذا المشروع الحيوي "البطيء" كي ينتهي ويخلص بلادا بأكملها من العذاب اليومي الذي يمارس ضدهم لأن أحدا لم يطرح سؤال "ماذا لو" وادي عدي تفجر بضخامة وهدم كل ما بني في سنوات سابقة، وجعل الطريق صعبا للغاية؟
إذن لماذا يطالب البعض باستجواب الوزير وكأنه المذنب الذي وقع بيده على موقع المستشفى أولا، ثم وقع بيده على الطريق ثانيا، ثم وقع بيده على فتح الطريق للماء المنهمر؟!
أهذا ما جاء بكم لمجلس الشورى أيها الأعضاء الأعزاء؟ أن تستجوبوا فيما ليس مهما وتتركوا البحث عما هو مهم؟ لماذا لم تطلبوا الوزير المسئول عن المالية وتساءلوه حول الموازنة العامة للدولة ولماذا ما زال قطاعا التعليم والصحة "ضئيلان" في حسبة الأرقام؟ لماذا لا تطلبون وزيرة التعليم العالي وتناقشوها في الجامعة الجديدة التي سمعنا وعلمنا بها ولا نرى شيئا على أرض الواقع؟ لا مناقصات للبناء ولا مواقع ولا خرائط ولا يحزنون؟ لماذا لا تستجوبون وزير التجارة والصناعة عن الأسعار المبالغ فيها والتي تقصم ظهر أي عماني يحلم بأن يكون الألف الذي يتقاضاه ألف "حلال" لا يذهب ثمنا في الفراغ؟ فما بالك بالفئات التي هي أقل دخلا بكثير من هذا المواطن المطحون بكل هذه الأسعار غير المنطقية
اسألوا لماذا يتم رفض تثبيت الأسعار، ولماذا يصرون على أن ذلك يخل بمبدأ السوق الحرة، هل هذه السوق الحرة كما يزعمون أهم من مصلحة الوطن والمواطن؟ هل الرأسمالية البغيضة أهم عند هؤلاء المسئولين والتجار ـ بمن فيهم من مسئولين أصحاب مصالح ـ من مواطن يريد تعليم أبنائه، يريد أن يعيش مستورا لا يسأل الناس قوت يومه، أو حاجة ندرك جميعا أن سؤالها بغيض للغاية ويهدم الإنسان من أعماقه؟
هي الإدارة التي يمكن لها أن تحد من إشكاليات كثر كهذه، هي التي يمكن لها أن تصوب مسار الأشياء تجاه الوجهة الصحيحة، والتي يمكن في حال تطبيقها تطبيقا سليما أن توجد لدينا مجتمعا جيدا قابلا لتحمل المستقبل بكل أعبائه.

تعليقات

المشاركات الشائعة