العقدة في سوق السمك
كنت أخذت على نفسي عهدا أن أحاول قدر المستطاع عدم الكتابة عما يدور في الشأن العماني، شأن هذا الوطن البائس المترع بالمشاكل والإشكاليات، كنت عاهدت نفسي ألا أدخل نفسي في قمقم لا علاقة لي به، قمقم المشاكل التي لا تنتهي، وعندما تتحدث عنها بكل شفافية يأتيك أحدهم فيقول لك: بسكم، ما شايفين غير الجانب السيء، وما تشوفوا المبهج والمضيء، أنتم أناس سلبيون وعاقون لحقوق هذا الوطن، مجموعة من الثرثارين الذين كلما أعطوا من خير؛ صاحوا: أين هذا الخير الذي تتكلمون عنه؟
أردت أن أرى الكأس من جانبه الممتلئ، فلم أستطع، لم أجد امتلاء، وإنما نقاط مضيئة تحيط بها نقاط سود هائلة، لا يرتجى مسحها بسهولة، لأننا ـ مجتمعا وقيادة ـ نؤمن قطعا أننا عال العال، وليس هناك أفضل مما كان
صبرت شهرا، وشهرين، وثلاثة، ثم وجدت أنني أكذب على نفسي، وأنافق وطني عندما أصمت لرؤية ما ينبغي نقده، وما ينبغي الحديث عنه، من سلبيات سيأتي الوقت وتقصم ظهر البعير والناقة وصاحبهما دفعة واحدة، كما حدث قبل عام عندما ضج شباب بما يحدث لهم، ولم يعد باستطاعاتهم أن يصدقوا الصناعة الإعلامية التي تقول لهم ليل نهار بأن عمان مجتمع نظيف ومسالم وطيب وحباب وبلد المعجزات العديدة في زمن انتفت فيه هذه المعجزات، فثاروا وأعلنوا بالصوت العالي: كفى تزويرا للواقع، كفى كذبا.. عمان تتجه للهاوية ونحن معها إن لم تكفوا عن هذا النفاق
حسنا..
سأنكث بوعدي لذاتي، فهي التي وعدتها ولم أعد أحدا غيرها، وسأعود للكتابة، الشيء الوحيد الذي أتقن فعله بشكل جيد، ولحسن الحظ لم أعد أحدا بأني سأنزوي في حال سبيلي....
* * *
ما دام الأمر كذلك فما الذي ستكتب عنه في أول عودتك للكتابة؟
لماذا لا أبدأ بالكتابة عن الصحة؟ خاصة أن إضراب الأطباء الشرفاء ليس ببعيد، ولم ينته فعليا، فهو معلق حتى أجل مسمى بعده إما العودة للاعتصام وإما التصفيق للحكومة التي تنصت وتسمع وتحاول أن تبذل قصارى جهدها كي تحقق "مطالب" الشعب المسكين
أمس، كنت ذاهبا لمستشفى خولة المتخصص في العظام والحروق والتجميل، كنت في موعد في عيادة العظام، وخلتني داخل سوق سمك، أحاول أن أشتري سمكة صغيرة جدا بمبلغ هائل! كان الموعد الساعة الحادية عشرة صباحا، وقد قلت في نفسي فلأذهب مبكرا ساعة من الزمان سأقرأ فيها مجلة العربي العلمي الجديدة، ريثما يصل دوري في موعده بما أني متقدم هكذا.
هذا في حال أنهم لم يدخلوني إلا على الموعد الذي تنص عليه الورقة
مرت الحادية عشرة، وتلتها الثانية عشرة، والواحدة ظهرا، ثم أسأل الممرضة التي في الاستقبال: هل كسر جل أهل عمان اليوم، وحولوا هنا؟ فأجابت: الوقت غير مهم في الحكومة، لا الوقت ولا النظام؟!! هذي أوراق مرضى محولين منذ أسبوعين.. فهمت من كلامها أن مرضى هذا اليوم متكدسون منذ أسبوعين، وربما كانت قرعتهم في هذا اليوم، لتتحول عيادة العظام المتخصصة إلى سوق سمك، يفلح من سيمسك بأعصابه أن لا تتلف جراء الانتظار إلى ما لا نهاية
الممرضة إياها على نهاية دوامها تبتسم لي وترشدني للطبيب وتعتذر وكأن الخطأ منها ليس من النظام الذي لم يحسن تدبير الأمر منذ البداية.. ساعتها قلت: تحية للأطباء العمانيين الشرفاء الذين ينبغي مساندتهم كي تتحقق مطالبهم التي تصب في صالح كل عماني
كيف لعيادة تخصصية جدا أن يكون هذا التكدس حادثا فيها؟ كيف لمستشفى كمستشفى خولة المشهود له بالكفاءة أن يعيش جوا من سوء النظام الإداري؟ الأزمة ليست كفاءة طبيب، إنما سوء إدارة أودى إلى ظاهرة الاحتجاج والاعتصام
* * *
بحكم عملي في جامعة السلطان قابوس، أدرك تماما مدى نباغة طلاب الطب، لدرجة أن جامعات عريقة في كندا وأوروبا تطلب هؤلاء الطلاب للتدريب لديها، طلاب نابغون سرعان ما يتم توجيه تهمة الإهمال إليهم بعد أن يذهبوا للعمل في "شركة" المستشفيات الحكومية، دون أن نفهم أن العقدة ليست في هذا الطبيب الذي دخل الجامعة وهو يمتاز بذكاء عال، ودرجات كبيرة أهلته للدارسة في الطب
العقدة في كيفية الإدارة، وكيفية التعاطي مع الإنسان ذاته، فأن تتحدث إلى طبيب عماني أفضل ألف مرة من أتتحدث إلى طبيب وافد قادم من "مزارع" الشاي في سيرلانكا والهند والباكستان!
هذا الموقف أتذكره جيدا عندما مرضت والدتي بالسرطان، فكان الوافد غير كفء في إدارة حالتها الصحية، فيما العماني ـ وكان وقتها طالبا في سنة الامتياز ـ يحاورني ويعلمني بحالتها وبما ينبغي فعله وهل هناك إمكانيات للشفاء من عدمه، يتحدث بكل شفافية ويساندك في ألمك ومصابك، وكأنه قريب لك، أخ يسرد لأخيه حالة الأم المريضة التي إن لم تفلح الأدوية الكميائية معها فإن الأمر بيد رب العالمين ولا رجاء من السفر خارجا بحثا عن علاج أفضل
صحيح أن ليس كل الأطباء العمانيين ذوي كفاءة، ولكن الأشياء لا تقاس بالقلة، وإنما بالكثرة، وبالنماذج المشرفة فعليا، ولو أن إدارة سليمة كانت تدير قطاع الصحة لما احتج الأطباء، ولما كانت كمية الأخطاء الطبية لدينا بهذه الوفرة، ولما اتهمت المستشفيات بأنها مستشفيات "جراجات" لا أكثر ولا أقل، كما هو الحال مع مستشفى صحار المركزي
* * *
ما دام الأمر هكذا: أطباء جيدون وذوي كفاءة، فلماذا نتشكى من قطاع الصحة دائما؟ لماذا نطلق عليه وابل الكلام الرصاص، ونسب مؤسساته المتعددة، ولا نعول على العلاج فيها مطلقا؟
العقدة في الإدارة مجددا
لينظر أحدكم عندما يذهب للطوارئ في حالة مرضية ما، ثم يعاود بعد يومين لم يتشاف من حالته المرضية ولم يستجب لأدوية الطوارئ، انظروا كيف أنهم يبدأون معك من الصفر، ولا قيمة لأجهزة الحاسب الآلي التي يفترض فيها تسجيل كل التفاصيل الخاصة بمراجعتك المركز الصحي، المجمع الصحي، في أي مكان كان، في غير أوقات العمل المفترضة، يبدأون معك وكأنك لم تذهب مطلقا لاستشارة طبيب، ولم تأخذ أدوية أبدا، هل يعقل هذا في حكومة تهلل وتكبر للزمان الإلكتروني لدرجة أنهم أنشأوا هيئة معنية بتقنية المعلومات؟
وإذا كان ملفك في مستشفى حكومي ليس تابع لوزارة الصحة فعليك أن تحصن نفسك بالورق، وأن تطالب ذلك المستشفى بصرفها لك إن كنت عازما أن تتوجه لمستشفى آخر، لأن "السيستم" الخاص بتلك المستشفيات لا يتوافق أولا، وليس مربوطا ثانيا مع/ بذلك "السيستم" الخاص بوزارة الصحة
ليست مشكلة كبيرة، فالورق موجود، ولكن هي مشكلة حقيقية إن كانت الأجهزة لا قيمة لها إلا في أوقات الدوام، وأما الطوارئ فلا تسجل بيانات مرضك وعلتك، ومشكلة أعمق إن كنت ستزور مركزا صحيا في ولاية من الولايات سنفترض أنك تزورها زيارة عابرة وحالما تعود لبيت وتزور المركز الصحي المجاور لك تبدأ معهم من الصفر أو ما دون الصفر
ماذا عن الحكومة الإلكترونية؟ ماذا عن البطاقة الذكية التي ندفع لها في مركز الأحوال المدنية مبلغا جيدا من المال كي نستخرجها ولا قيمة لها إلا في معاملات معينة؟ أين هذه الحكومة الإلكترونية إن لم يكن هناك ملف صحي لكل فرد، حالما تضع الرقم المدني في الجهاز ـ وإن كان في سفارة عمانية بأقصى بقاع الدنيا ـ يستخرج لك كل ما توده من معلومات صحية؟
* * *
ليست المشكلة في الفكرة، وإنما المشكلة في الإدارة، فالملايين وجدت لتصرف، ولكن يبدو أن مردودها هو "إعلامي" بحت، وقشرة خارجية لا تقدم شيئا حقيقيا
المواعيد قصة بذاتها، قصة عجبيبة سردت لكم بدايتها في العيادة التخصصية التي يفترض أنها تستقبل حالات قليلة، فليس كل أهل عمان مصابون بالكسر كما ظننت، ولكن "قرعتهم" وضعتهم في ذلك اليوم فقط، لأظن أنه سوق سمك
اليوم يطلبون منك أن تتصل كي تحجز موعدا، ولكن الهاتف مغلق أو معطل أو لا أحد يرد، وعندما تزورهم وأنت منهك يطالبونك بالموعد، وعندما تتعذر بكل الأعذار المشروعة، يطلبون منك أن تحجز موعدا، فهل يحجز المرء موعدا مع المرض؟ وهل هذا المرء مطالب بأن يخترق الحجب فيعلم إن كان الهاتف يعمل أم لا يعمل؟
وحجزت موعدا، وعندما تبكر ولا حاجة لدى الطبيب ينبغي عليك انتظارها سيقال لك انتظر موعدك حتى يأتي، وعليك أن تصبر، والصبر شيمة يجيدها العمانيون على ما يبدو بشكل كبير
طيب، موعدي جاء فلماذا لا أدخل؟ ثمة حالات كثيرة قبلك! ما ذنبي كي ينتهك حقي هكذا؟ ما ذنبي كي أعيش غباء الإدارة التي تجعل العماني يعتقد أن مراكز التداوي بالأعشاب هي أحسن حالا من أي مستشفى جهز بما لم تجهز به مستشفيات أخرى؟
للأسف الشديد: هي عقدة الإدارة التي لا نحسنها، وعلى العماني أن يطلب الصحة ولو في الصين، وأن لا يعول كثيرا على منظومة بلاده الصحية، فهي أقرب للفشل منها للنجاح، مهما أعطيت من شهادات دولية تؤكد عكس ذلك
وللحديث بقية
تعليقات
إرسال تعليق