كيف تكون مسرحيا في ساعتين؟

قبل عام كتبت ما يشبه الهجاء للمؤسسة الرسمية التي ينبغي عليها أن تهتم بمقومات الثقافة، والتي يبدو المسرح وقطاع الفنون في مقدمتها كونهما ركيزة مهمة في بناء الشعوب، في تثقيفها، في إعطائها دفعة إلى الأمام، في جعلها أكثر تشبثا بثقافتها المعرضة بطبيعة الأحوال للتشوه وربما الانسلاخ من روحها وذلك بحكم المتغيرات التي جعلت من الثقافات في كل العالم متجاورة جدا إلى درجة الاحتكاك المباشر، فإن لم تكن هناك مبادرات "رسمية" فإن الثقافات تبدو أكثر عرضة للتغيير بحكم أن الجديد مغرٍ وساحر وقادر على الولوج إلى أعماق تلك الثقافات الضاربة في القدم

والفنون جميعها قادرة على جعلنا غير منسلخين تماما من ثقافتنا، إذ أنها ـ بوجود الفن ـ ستقوم بعملية تغذية متواصلة نحو المستقبل، ستعطي أملا للغد، كما أنها ـ أي الفنون والإبداع بشتى صوره ـ تمكننا من امتلاك الإمكانية لردم هوة الاختلاف مع الجديد المغوي والساحر

قلت كلاما كثيرا عن عدم جدوى استمرارنا في النهوض بالحراك المسرحي ما دام المسئول غير مبال لذلك، وكتبت ما يشبه الرثاء لحالات فردية ظلت تقاوم محاولة التشبث بالأمل، الأمل الذي به وحده يحيا الإنسان، وما نفعله اليوم سيكون تاريخا لنا في الغد، تلك الحالات التي لم تيأس حتى اللحظة من أن ثمة أمل تخبؤه الخشبة المسرحية، يخبئه الفن عامة، حتى أوجدت لنفسها مكانا محاطا بالضوء البهي، وما زالت تواصل ذلك العطاء مهما كانت صخرة سيزيف تسقط من علٍ، لأنها تمسكت بالأمل، وبالأمل وحده يمكن للإنسان أن يحيا، والمسرحيون، المبدعون، الفنانون محكومون به إلى حد بعيد.

هذا ما أشار إليه واحد من عبقريات الخشبة المسرحية في الوطن العربي، سعد الله ونوس، عندما طلب إليه بأن يكتب رسالة يوم المسرح العالمي قبل سنوات عديدة، قبل أن يقول المرض كلمته الأخيرة في حق هذا الإنسان، ويعلن أنه انتصر، انتصر شكلا فيما كانت النتيجة النهائية بقاء سعد الله ونوس خالدا بأعماله الرائعة التي يكفينا اليوم أن نقرأها لا أن نتابعها على الخشبة، وهذا هو المدهش في هذا الإنسان، الذي جعل من المسرح قابلا للاستمرار في الورق على أقل تقدير، عندما أخذت تنهشنا كبشر عوامل الزمن الفج المتغير، الذي صنع إنسانا تافها في أعماقه، جعله إنسانا لا يرى سوى اللمعان الفضفاض للأشياء، وغير قادر على الولوج إلى عمقها تلك الأشياء، لأنه بالمختصر تمت "ميكنته" لصالح سماسرة المال فقط.

وفيما آمن هو وكثيرون معه بأهمية الفنون في صلاح الشعوب؛ وجدنا نحن اليوم أن المسرح والفن والآداب عموما ما هي إلا "أشياء" شكلانية يمكن أن نتزين بها وبأنه في الإمكان الاستغناء بأي حال من الأحوال عنها لأنها ليست ضرورية أو مهمة.

هكذا ظل اعتقادي قائما بأن المؤسسات الرسمية لا يعنيها من كل هذا الأمر سوى الشكل، وبأنها ملامة كل الملامة في فعلها هذا، وبأنها تقوم بأمر خطير تجاه مستقبل الثقافة عموما في بلد ينطق بالأصالة في كل مكان

وكان في اعتقادي أيضا أن الكسل والتكاسل هو طبع تلك المؤسسات البيروقراطية التي تعاني من أشخاص لا علاقة لهم بالفن، ليسوا في الصف الأعلى من المسئولية، بل هم أساس العمل الإبداعي كونهم المشرفين عليه والقائمين به، ليصل بي الظن إلى أن مثل هؤلاء الذين تعلموا وصرفت عليهم الحكومة الأموال الطائلة كي ينعموا بالمعرفة ما هم إلا متآمرون على أخوتهم في المجال ذاته

لكنني لا أخفي عليكم بأني كنت مبالغا جدا في تلك النظرة السوداوية، وبأن القمر له وجهان لا واحدا، ولا ينبغي القول بأن الأمور سيئة لأن جهة رسمية "متكاسلة" ولأنها ترزح تحت أثقال البيروقراطية الفجة التي حولت الإبداع إلى مسائل رياضية وحسابية مقيتة، كنت محتدا وحزينا على المشهد الإبداعي في المسرح الذي وصلنا إليه، ولكنني لم أكن لأدرك أن المأساة هي أكبر بكثير من مجرد جهة حكومية "تحاول" ـ بعكس ما ذكرت وقلت ـ قدر مستطاعها أن تقدم خدمة للوطن بما أوتيت به وبما أتيح لها من موارد وقدرات، محاولة القفز على الصعوبات التي تواجهها في ظل معطى عام يغزو العالم ككل بأن الثقافة عموما لا قيمة لها في حياة المرء، وبأن علينا الاستكانة لموجة الاستهلاك وألا نقاوم تلك الرغبة الربحية التي ترفع العالم إلى الفضاء وتلقي به في الوقت ذاته إلى القعر دون أن يملك قدرة على الرد أو المقاومة لأنه بالمختصر أعجب بهذه الصياغة الجديدة التي دخل فيها بملء إرادته، ولقد رأيت تلك المحاولات النابعة من جهات الاختصاص خلال مهرجان المسرح، حتى وإن لم تكن لديها خشبة مسرحية خاصة يمكن أن تقدم من خلالها مهرجانا مسرحيا كما نحلم، ولكنها فعليا حاولت أن تستغل الإمكانية المادية الموجودة لتقدم ما يمكن تقديمه، حتى لو صرخنا بملء ما لدينا من أصوات بأن العربة لا تمشي دون عجلات، ومهما بدت المنصة شبه مظلمة ما كان علينا أن نسخط ذلك السخط الكبير، بل وجب أن نتشبث بالأمل، الأمل في استمرارية العطاء مهما كانت الظروف والإشكاليات والتي لا ينبغي بأي شكل من الأشكال إلقاؤها على الجهات الرسمية وحدها، فهي ـ أي المؤسسة ـ يد واحدة والأخرى نحن ليكتمل التصفيق في الصالة عقب نهاية العرض.

"كيف تصبح مسرحيا في أقل من ساعتين؟"

لكنني مع ذلك "أتشبث" بالتشاؤم وأقول بأن المأساة أكبر من ذلك بكثير وأعقد، لأن من كانوا يتباكون على الدور المؤسساتي لم يقوموا فعليا بأدوار تؤهل تلك المؤسسات للثقة في جدية مشروعاتهم، وهنا أتحدث عن مجمل المسرحيين في السلطنة، الذين خذلوا الجماهير بتعاطيهم السطحي مع المسرح، ولا أدل على ذلك من مهرجان ضعيف إلا فيما ندر من أعمال قدمت، وكأن تلك الأعمال هي أعمال مؤسساتية، لا اجتهادات فردية "أهلية" فهل كنا ننتظر أن تأتي وزارة التراث والثقافة لتبث فينا روح المسرح؟ لتعلمنا؟ لتضع الوجبة كاملة في أفواهنا؟ وهل هذا دورها؟ أين نحن من عملية الإستنارة المعرفية في المسرح؟ أين نحن من دورنا في هذا المجتمع الذي نعيش فيه؟ دورنا في التغيير، في جعله مجتمعا ينطق بالرهافة والجمال والثقافة من قمة رأسه وإلى أخمص قدميه؟ في ظني لا يبدو أن هناك أي دور واضح لأننا نتعامل مع الثقافة والمسرح من ضمنها بشكل تسطيحي، ولا نحاول أن نحفر في العمق كي نرتوي جميعا من بئر المعرفة، نائمين جوار البئر، منتظرين أحدهم كي يأتي وينزل الحبل مغترفا لنا ولو قليلا من مائه!

والعنوان الفرعي الذي أطرحه هنا هو المعبر فعليا عن مأساة المسرح في السلطنة، ففي خلال عام منذ إشهار الجمعية العمانية للمسرح، ونحن لا نرى جهودا "أهلية" في صياغة دور مسرحي قادر على أن يصلح الخلل الذي كنا نقول بأنه موجود، وكل ما نراه محاضرات ولقاءات "تشرح" كيفية أن تصبح مسرحيا ناجحا في ساعتين، من خلال محاضرات عن الإخراج أو التأليف أو الأداء لشباب قد لا يكونون عارفين بماهية المسرح فعليا، وبأن "الشو" الذي قد يحصلون عليه هو الفكرة الأساس للمسرح، وليس الارتقاء بالروح إلى مساحات جمالية واسعة، فهل كان هذا هو الدور الذي تم من أجله إشهار جمعية عمانية للمسرح؟

إن الإدارة الحالية للجمعية ـ وهي بالمناسبة إدارة مؤقتة إلى حين تهيئة الجو المناسب من أجل الانتخابات كما يحدث مع بقية الجمعيات ـ لم تقم بما هو مناط إليها من قبل اللجنة التأسيسية لهذه الجمعية، ألا وهو التهيئة الفعلية لضم المسرحيين العمانيين وإقناعهم بضرورة وجود حراك مسرحي مستقل عن المؤسسة الرسمية ـ لا يتضاد معها بطبيعة الأحوال وإنما يساندها ويعمل على جعل فعالياتها المسرحية أكثر امتدادا وقوة ـ إضافة إلى العمل على ردم الهوة في فضاء المسرح، وجعل العاملين فيه قادرين على إدراك مكنونات المسرح كمعطى ثقافي يصب في صالح المستقبل، في صالح الأجيال المقبلة، وكذلك دعم الفرق المسرحية للخروج من عباءة الصمت، وإيجاد البيئات الملائمة للعمل الجماعي الذي ينتج اجتهادات فنية تشكل أفقا بحد ذاتها بعد حين

ما الذي فعلته إذن الجمعية العمانية للمسرح منذ إشهارها؟ لا شيء على الإطلاق، سوى سلسلة محاضرات في ظني أنها لا تغني ولا تسمن من جوع، محاضرات للظهور لا أكثر، لاسمين أو ثلاثة يبدو أنها تعاني من إهمال "إعلامي" ما، أو أنها تحاول أن تحقق لذاتها "اسما" مسرحيا لم يتشكل في تاريخها الذي لم يكتب أيضا

وأما المحصلة فلا تزيد عن إقناع أفراد ما زال الشكل المسرحي لديها غير واضح على الإطلاق، بالانضمام للجمعية، ربما فيما بعد يصبح لأصواتها دور ما في انتخابات تؤكد الوجوه ذاته التي تريد أن تكون في واجهة الأشياء.

وعندما تكون على واجهة الخلاف فإن أفرادها، غالبهم، لا يفكرون إلا في أنهم مقصيون، ولا أدل على ذلك من عدم وجود رئيس الجمعية في المهرجان المسرحي السادس الذي حضره بعض أفراد الإدارة، ولو سألته لأجاب: لم توجه لي الدعوة!! وهل تحتاج لدعوة لحضور مهرجان مسرحي ينبع من المكان الذي تعمل فيه؟ هل أنت في حاجة لأن تكون عضو لجنة تحكيم كي تحضر؟ أليس من صميم عملك رئيسا للجمعية أن تواكب مثل هذه المهرجانات النوعية وتغذيها بما لديك من إمكانيات؟ للأسف دائما ما تغيب القيم العامة الأصيلة وتحضر في مثل هذه الأوقات رغبات الصراع والاختلافات الفردية. وقس الأمر على كثير من أفراد هذه الإدارة إلا النزر اليسير ممن حضروا أو ممن لم تمكنهم المسافات فعليا من ذلك.

ولذلك لا غرابة في استقالة كل من حمود الجابري وعماد الشنفري وحسين العلوي ومحسن البلوشي من هذه الإدارة التي لا تعمل وفق استراتيجيات واضحة الملامح، ولا تعمل على مفاهيم مؤسسية راسخة تنشئ نشاطا وحراكا مسرحيا حقيقيا وليس عملا "صابونيا" قائما على الفقاقيع!

ويبدو أن دائرة الجمعيات بوزارة التنمية الاجتماعية مطالبة الآن بالنظر إلى جدوى هذه الجمعية التي لم تتحرك لتقدم شيئا حقيقيا للساحة، وإني أوجه لها الدعوة في "هز" كيان هذه الجمعية كي تخرج بشيء حقيقي كما هي باقي الجمعيات "الثقافية" الأخرى، والتي مهما بدت لديها مشكلات إلا أنها على أقل تقدير ما زالت تمشي وفق خطط مدروسة وممنهجة إلى حد بعيد، وتشكل في أفق الثقافة الجمعية أعمالا لها قيمتها مهما اختلفنا معها أو اتفقنا

"مسرحية بالسر"

في هذا الإطار أيضا يقدم بعضهم أعمالا مسرحية "سرا" وكأن العمل المسرحي عمل لا دخل للجماهير فيه، هذه الجماهير المتعطشة للمتابعة والحضور، ذلك أن الفكرة الأساس ليست الفرج المسرحية بمقدار ما هي "رحلة" إلى الخارج، الخارج الذي نفترض فيه عدم قدرته على التواصل مع ما سنقدمه، لأنه لا يفهم لغتنا، لا يفهم ثقافتنا، ولا يعي "الشكل" الإبداعي الذي نقدمه.

هذا يحدث في الجامعة، التي أعطت الثقة لـ"لفنان" كي يعمل وكي يجتهد دون أية أعباء أو تدخلات غير صحية، ولأنه "فنان" عبقري فإنه لن يعرض المسرحية إلا للمسئولين الذين عليهم أن يبتسموا له ويشجعوه في كل الأحوال

وعندما قيل له: نريد أن نقيم العمل ومدى صلاحيته، أشار إلى أن الكل يعاديه، الكل يكن له الضغينة ويريد أن "يحسده" إبداعه الفذ، وفي الحقيقة أن الواثق من نفسه ومن إمكانياته ومن قدراته لا يهتم بتقييم أحد آخر له ولا نقده إلا فيما يضيء له هو الدرب، بل ساعتها لن يفكر في جعل الأمر "سريا" لا مكان للجماهير فيه

ماذا لو فكر أن يستغل تلك الثقة في الاحتفاء بيوم المسرح العالمي؟ في المساهمة الجميلة لصنع تاريخ مسرحي جديد؟ لكن هكذا تتشكل الأزمة، من الفراغ، حيث لا شيء يوجد في الداخل، ولا قدرة على إدراك ماهية المسرح في الأصل، هذه هي المأساة الحقيقية: أن نكون مسرحيين ونحن لا نعي ما هو المسرح، أن نصف أنفسنا بالمشتغلين في المسرح ونهاجم المؤسسات التي ترعاه لأنها لا تقدم دعما، ونحن لا نقدم لأنفسنا أي دعم، ولا نعي من العملة سوى تطلبنا الدائم وتظلمنا وبأننا محرومون ومنفيون ومصادرون

هكذا نحتفل بهذا الفن، وهكذا نساهم مساهمة جليلة في صياغة تاريخ عريض لنا في الغد، وللأسف الشديد يسقط الأمل، فنحن فعليا لسنا محكومين به، نحن حكمنا على أنفسنا بالتشوه والفراغ من الداخل، وهذا الأمر ليس بأيدي الآخرين، بل بأيدينا، هكذا سطرنا إضاءات كبيرة في الحراك المسرحي، وهكذا ينبغي علينا فعليا أن لا نلوم وزارة التراث والثقافة فهي لم تقم بالأسوأ مقابل ما قمنا به نحن كمسرحيين، مقابل ما نعاني نحن به أصلا من ضعف وعدم وجود صفة "مسرحيين" في أعماقنا، وهكذا أقول لكم جميعا: كل عام وأنتم بألف خير أيها المسرحيون!

تعليقات

  1. هلال يكفي اعتذارك للوزارة
    بعد تزيد الطين بله على الجمعية وهي في اول سنه لها وكل تعليقاتك ضد رئيسها الدكتور الحبسي
    والظهور الاعلامي
    وانت تعرف هذا عمل تطوعي
    كم اقتراح قدمته ورفضوه
    بدل ما تكمل مع المسرحيين وتكونوا يد وحده
    تقوم تنتقد عمل في السر؟
    ليش بأي حق تضع قلمك في وجهه عمل لم يعرض بعد
    ومخرج العمل سيد عمله
    انت اعترضت على توقيع ورقه في المنتدى الادبي لانها ضد نصك وابداعك وتطالب الاخرين وتتدخل بكلام لا يوحي باحترام المسرح والفن والانسان الاخ الذي قزمته بكلام لا يليق بقلمك وانت تعرف ما هو الجهد المسرحي
    لن يصح الا الصحيح اخي هلال والنقد والكتابه ليست مشاعر انما علم فلا تضلم احد بقلمك المشحون للاسف

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة