تساؤلات من كوريا (2)

ليس هناك أقسى من المقارنة بين إنجازين، أحدهما تكلل بالمجد والآخر ظل يراوح في منطقة ضيقة، ويدعى أنه حقق المعجزة كاملة، فيما الواقع يقول بالحقائق بأنه كان يمكن أكثر مما كان
في كوريا الجنوبية كنت مشدوها لإنجاز الإنسان الكوري، ليس لأنه وصل إلى ما وصل إليه من تقدم وأفق مفتوح، بل لأنه استطاع أن يعبر أسوأ مما عبرناه، وأن يكون موضوعا في محيط مضغوط بشتى التحديات ليست الحرب أكبرها، بل عدم وجود موارد للإنتاج، وكثرة في الناس، وضعف في البنى الأساسية
الكوريون تقدموا للإمام لأنهم وضعوا في حسبانهم هدفا واضحا هو أن يكونوا في مصاف الدول المتقدمة، وأن يقهروا الصعاب التي ترميهم إلى خلف الزمن، ولذلك جعلوا من الحرب سببا من عدة أسباب كي يتغلبوا على الهشاشة التي كانوا يعيشون فيها، وألغوا كثيرا من المشكلات التي كانت ستحول دون تقدمهم.
لقد حولوا مشكلاتهم إلى أسباب للتقدم والنجاح، وقرروا أن لا يرتضوا بمستوى عادي، بل لابد أن يصارعوا اليابانيين والصينيين وحتى الأمريكان كي يشكلوا بحد ذاتهم قوة منافسة، ليس على مستوى العسكر، بل على مستوى التنور والديمقراطية
يقول السفير العماني المعتمد في كوريا محمد بن سالم الحارثي بأن الكوريين مزاجهم صعب ولا يرضيهم الشيء اليسير، وهذا هو بحد ذاته ما ساعدهم في أن يتقدموا، ليس على مستوى الحكومة وأفرادها بل على مستوى المجتمع ككل، فكل واحد يطمح في أن يكون مغايرا وناجحا ومتقدما، تجد الأسر تستفز أبناءها من أجل الحصول على فرص تعليمية عالية، مهما كان الثمن، تجد صاحب شركة سامسونج لا يرتضي بأن يكون رقما من أرقام السوق، بل رقما مميزا في سوق متعدد الجنسيات متعدد الأفق متعدد التطلعات، والحال هو ذاته مع مؤسس هايونداي التي نخال بأنها فقط شركة سيارات يمكن لها أن تكون "ماركة" منافسة لماركات عالمية، لكن عندما نقترب أكثر نكتشف أن هايونداي ليست سيارات فحسب، بل هناك الصناعات الثقيلة والتي أبرزها صناعة السفن العملاقة، وهناك الصناعات البتروكيميائية والنفطية، وهناك الكثير والكثير الذي جعل من اسم هايونداي واحدا من أبرز العلامات التجارية على مستوى العالم كله
إنهم لا يريدون أن يكونوا رقما عاديا، أو عابرا، لذلك كانت جامعتهم التي تسنى لنا زيارتها، جامعة "أكياس" أو كوريا الجنوبية الوطنية للعلوم والتكنولوجيا هي الجامعة الخامسة على مستوى العالم بعد أربع جامعات أمريكية، ليس لأنهم يهتمون بالتقنية فحسب، بل لأنهم يفكرون في الغد، يبحثون بشكل متواصل، يعوون بأن العلم هو السلاح الأهم في حياة أي أمة، لذلك ليس غريبا أن تكون في هذه الجامعة وحدها عدة مراكز بحثية لا تنبع أهميتها على مستوى كوريا فحسب بل على مستوى العالم
الجامعة الأخرى التي زرناها لا يستهان بها أيضا، ومن خلال محاضرة شيقة عن كيفية تشكل الاقتصاد الكوري يمكن لنا أن نتعرف إلى أهم الاستراتيجيات التي قامت عليها كوريا الجنوبية، التي يبرز فيها الإنسان كثروة أهم في أول سلم اهتمامات التنمية في كوريا
اليوم هم لا يتحدثون عن منتجات سلعية أو خدمية، بل يفكرون في الإنتاج المعرفي والمساهمة في صناعة المعرفة، وهذا هو التوجه المستقبلي
في المقابل فإنهم لا يكتفون بأن يخرجوا عمالا مهرة أو أطباء أو مهندسين، بل يعتنون بالعلوم الأخرى التي قد يستغرب اهتمام الكوريين بإدراجها في جامعاتهم كالدراسات الشرق أوسطية أو الأفريقية، واهتمامهم بدراسة الشعوب وثقافاتها
ليس ذلك فحسب، بل إنهم يقولون للعقول الفذة من الطلاب من مختلف بلدان العالم تعالوا ادرسوا مجانا، وإن كانت لكم أفكار نيرة فكوريا ترحب بكم، برغم أن تعداد الكوريين يتجاوز الخمسة والعشرين مليون نسمة
ومع كل هذا الانفتاح على أفكار ما بعد حداثية إلا أنهم يهتمون بثقافتهم ويعتنون جيدا بهويتهم حتى لا تضمحل، لا يجعلونها فرجة سياحية فحسب، بل يطبقونها في حياتهم اليومية بشكل أو بآخر، ولا يأخذون قشرتها الخارجية فحسب، بل يضمون بين جوانحهم لبها كقيمة احترام الذات والآخر، والحفاظ على الكيان الأسري، وتنشئة الأبناء على ثقافة مهمة هي احترام النظام إلى حد التقديس، النظام والدقة هما اللذان ينبغي أن يلتفت إليها أي واحد يريد أن يتقدم، وليست قشور الأشياء كما هو حاصل معنا

أنبهر بكل هذا في وقت أجد أن بلادي التي لطالما خلت أنني في آمان فيها، تهديني إحساسا بأنني غير ذلك، فاختراق القواعد القانونية عبر اختطاف الناس من المقاهي والشوارع وأماكن عملهم دون توجيه أي تهم أخذ يشكل قاعدة أساسية لدينا
يحدث ذلك لوجود الاختلاف، وليس الإساءة كما أوضحت البيانات المتتالية للإدعاء العام. وبات الواحد منا يفكر ألف مرة بأنه معرض للاستدعاء أو الاعتقال لأنه قد يكون أبدى وجهة نظر مغايرة، يرى فيها الآخرون تحريضا او تعريضا أو إساءة أو أي تكييف قانوني يقتضي المعاقبة
وعوضا من أن نفكر بصوت عال في مشكلات وطننا ونبحث عن حلول ومرئيات لتعديل السلبيات وتحويلها إلى طاقة إنتاج نستهلك وقتنا في تصرفات كالتي نعيشها في الوقت الراهن
فمثلا نحن نعي اليوم بأن النفط المورد الأساسي لاقتصاد بلادنا يوشك على النفاد، يوشك أن نودعه ونقول له باي باي، فماذا نحن فاعلون بعد ذلك؟ وهل من الإساءة أن نتكلم عن هذه الثروة أو ما تبقى منها وكيفية توزيعها بشكل يضمن لنا غدا أفضل؟ بل لماذا لا نحاول أن نجيب على سؤال مهم هو: ماذا فعلنا بهذه الثروة خلال أربعين عاما الماضية؟ هل بنينا جامعات ومعاهد ومدارس على مستوى عال من التقدم والرقي؟ أين هي البنية الأساسية التي شكلها هذا النفط على مدار الأربعين عاما الماضية؟ هل سنجيب على هذا السؤال بعدما ينتهي النفط ولا يبقى هناك غاز؟
أبسط المشاكل التي نواجهها اليوم هي النظام التعليمي الذي لا ينجب كفاءات بل أناسا لا يستطيعون "فك الخط" في أسوأ الحالات. أين ذهبت خطط التطوير؟ أين النفط الذي سكب من أجل إيجاد نظام تربوي وتعليمي جيد؟ المحصلة تكاد تكون صفرا، ويا للأسف
الأمر ينطبق على النظام الصحي الذي أنشأ مبان ضخمة إلا أنها مصابة بالترهل من الداخل، بل إن العاصمة مسقط لا يوجد فيها مستشفى خاص بأبنائها، وكل مستشفياتها هي لكل أبناء عمان الذين يرون أن مسقط هي الوحيدة التي في نعمة ـ ولهم الحق كل الحق في ذلك ـ وبأنهم مظلومون بمستشفيات فارغة من كل معنى
وقس الأمر على الشوارع التي تقام بنظام التقسيط في بلد لا يصل تعداد أبنائه إلى ثلاثة ملايين نسمة، بل إن إنشاء نفق في الجبال العديدة التي تحيط بنا هو من الصعوبة بمكان لأننا سنفكر ألف مرة: ماذا لو كان التصريف سيء أو حدث ما هو سيء في الداخل كيف يمكن أن نصلحه، بل ربما توقفت الكهرباء وأغلقت المصابيح؟
الكهرباء وحدها حكاية طويلة في بلاد الشمس والحرارة التي لا تستغل، فيما الكوريون يفكرون في البعيد وليس طاقة الشمس أو الرياح فقط، ومشروعهم الثوري مع كل من أمريكا وفرنسا واليابان وروسيا لهو دليل على أن هؤلاء الناس لا يتوقفون عند مرحلة بعينها ويكتفون بها، بل سيندهش المرء عندما يعلم أن مشروع صهر النواة، المفاعل الضخم الذي ينبونه الآن سينتهي العمل به في عام 2040، سنوات طويلة في نظرنا نحن، لكنهم يفكرون في الغد، وبأن من حق الأبناء أن يفخروا بأجدادهم الذين قدموا لهم طاقة نظيفة تعفيهم من مفاعلات نووية ومن انقطاعات متواصلة صيف شتاء
ماذا فعلنا نحن في مقابل ذلك؟
لا شيء يذكر
ويا للأسف

تعليقات

  1. Thumbs up. I always thought South Korea is a special country.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة