عن التربية للمرة الألف

تسنى لي خلال الأسبوع الأول من مارس الجاري، المشاركة في مهرجان المسرح المدرسي الثالث، الذي تنظمه وزارة التربية والتعليم، لأحضر اجتهادات جميلة تمنيت لو أنها كانت هي اجتهادات مهرجان المسرح العماني. اجتهادات تؤكد وجود رؤى مسرحية تؤسس لحراك جميل مستقبلا،لو تم الاعتناء بها بشكل جيد
كنت أعقب على أحد العروض، وكان مخرجه واحدا من الشباب الذين تعرفت عليهم من خلال المنصة ممثلا، ولأنه عامل في السلك التربوي فجيد أن يكون متصديا للاشتغال على الخشبة المسرحية، مخرجا في هذه المرة، ومعطيا طاقاته التي تعلمها في مجال المسرح، مدربا بها طلابه الموهوبين الذين يمكن لهم أن يكونوا في الغد هم طاقة المسرح العماني الكبيرة
تفاجأت بداية من العرض الذي عقبت عليه، كونه عرضا محملا بطاقات تجريبية على المستوى الإخراجي، مما يدل على الطاقة التي يمتلكها المخرج أولا، والذي كان يريد أن يخرج إمكانياته وقدراته ويطعيها للطلاب
كنت أعتقد أن البداية ينبغي أن تكون مع فهم المسرح من قبل هؤلاء الطلاب، ولكن لعلي رؤيته، وقناعاته التدريبية، ومن الجيد أن الطلاب قادرون على الهضم السريع والممتاز لمثل هذه المعطيات التجريبية التي اختارها المخرج
ظننت أن هذا الخروج "التجريبي" من قبل علي ما هو إلا تجربة وحيدة في المهرجان، لأكتشف أن المسرح الذي عرفته في المدارس قبل عقدين من الزمان لم يعد هو ذاته، ولم يعد التربويون يطرحون لا هم ولا طلابهم القضايا التي كنا نطرحها في ذلك الوقت، وهذا على ما يبدو أمر طبيعي جدا، إذ المعرفة توسعت، وبات من السهولة الحصول عليها،ولم تعد الأفكار المطروحة هي ذاتها المطروحة قبل عقود، إنها طبيعة التحولات التي تمر بالعالم كله وليس بعمان ولا بالبلاد العربية التي يعيش كثير من أفرادها في عصر سابق للعصر الذي نعيشه
لذا انتشيت إلى حد كبير بالتجربة المسرحية التي تدعمها وزارة التربية والتعليم، انتشيت لأن الصورة عن الوضع التربوية في البلاد كلها تكاد تكون مغلوطة، ونشاط كالمسرح يؤكد على أن التعليم لم يعد كما كان، بل عكس ما يراد له
لذلك أقول بأنه من الجيد جدا أن يتواصل مثل هذا المهرجان، أن يدخل المسرح للمدارس ويشكل ظاهرة بحد ذاته مثله مثل أنشطة الكشافة والمحافظة على البيئة المدرسية!

***

إلا أن العرض الختامي، العرض الشرفي، جعلني أغلي من داخلي، وجعلني أقول لأحدهم: هذا عرض "قلة أدب" واحتقار واضح ليس للماضي، وإنما للمستقبل
ولكي أوضح الفكرة أكثر أقول:زمن الضجيج عمل مسرحي لمحافظة مسقط، عرض شرفي لم يدخل المسابقة من الجيد أنه لم يدخلها، لأنه قائم على الاستهتار، قائم على فكرة غير تربوية تقول لك بأن كل تاريخك مدنس وحقير وسيء، ذلك التاريخ الإبداعي الذي لا يمكن أن نعيشه لأنه تاريخ مجون وقتل وسلب واستهتار، فيما زمننا اليوم هو الأفضل، زمن حسين الجسمي واللعب وعدم القراءة
لو أنها كانت فكرة تعبر عن وجهة نظر في مهرجان مسرحي للكبار لقلت: لا بأس، ولكنني على خشبة المسرح المدرسي، حيث الفكرة الأساس هي التربية، هي تعليم الطلاب شيئا مفيدا وجعل شخصياتهم شخصيات متزنة معطاءة قادرة على الإنتاج المثمر. ما حدث هو عكس ذلك تماما، عرض لا يكتفي بالاحتقار بل يعمد إلى التشويه وإعطاء الطالب معلومات مغلوطة، لا تكتفي بكون أن المنفلوطي بين ليلة وضحاها أمسى شاعرا، ولا يكتفي بأن أحمد شوقي بات أحمد شريف أو أحمد شوكلاته! ولا أن الشنفرى والصعاليك من ورائه ما هو إلا مجرم عربيد قاطع طريق، وطرفة بفتح الطاء بات طرفة بضمها، وعنترة الشاعر الثوري العظيم كان عنتر الذي عقدته الكبيرة عدم تزويجه بنت عمه وعدم اعتراف والده به! بل يعمد أيضا إلى جعل طالب، تلميذ صغير لم يصل سنه القانونية بعد،جعله سكيرا على الخشبة، في فعل يتنافى مع الأبعاد التربوية مطلقا
أتذكر أن شخصية السكير لم تكن مسموحة في المسرح الجامعي إلى وقت قريب، فما بالكم بها في مسرح تربوي يهدف إلى شحن الطالب بالطاقات الإيجابية والأخلاق الرفيعة؟
فوق ذلك، المسرح هو الأداة المثالية ليتعلم طلاب المدارس اللغة الفصحى، والنطق السليم للحروف، ولكنني رأيت كيف تكسر اللغة، وكيف تؤكل الحروف، علما بأن كثيرا من المشرفين على العرض هم مدرسو لغة عربية وخريجو أقسامها، وبعضهم يمثل بالفصحى فكيف تجوز مثل هذه المعادلة الصعبة؟

***

عندها اقتنعت أن التربية تعيش أسوأ مراحلها، وإن لم تنتبه وزيرة التربية والتعليم إلى ضرورة إصلاح المدرسيين والتربويين وتعديل مفاهيمهم تجاه هذه المهنة الخطيرة فإن أيا من إصلاحاتها الحالية ستذهب أدراج الريح
وإذا كانت مادة كالتربية الإسلامية، ونظام الامتحانات والنجاح والرسوب قد أعيدت كلها إلى سابق عهدها فإنه من الضرورة الملحة جدا أن تنتبه الوزيرة الجديدة إلى اللغة العربية، باعتبارها الأداة والوعاء الثقافي الذي يجعل مادة كالتربية الإسلامية ـمثلا ـ تحقق ركائزها التي أوجدت من أجلها.
وأنتم أيها المدرسون: قد تعاطفنا معكم كفاية، ولكن آن الأوان أن تبادلونا قليلا من رد التعاطف، بأن تكونوا أكثر قابلية للثقة، وأن تكونوا رسلا يأمن المرء على أبنائه بين أيديهم، ولتعلموا أن المكاتب والطلبات الشكلانية التي طلبتموها ليست هي الأساس، بل أنتم الأساس، وأنتم مربط هذه القضية الشائكة، فكونوا أهلا للأمانة التي اخترتم أن تحملوها ولم يخترها أحد لكم....

تعليقات

  1. هاجس جميل يبثه هذا المقال ليسلط الضوء على مرئياته فيما يدور بين جدران المدراس العمانية من تجارب مسرحية ، وهو بحد ذاته ثمرة من الثمار التي تتطلع إليها التربية من خلال دعوتها لنخب منتقاه من الخبرات والأقلام الحصيفة لمشاركتها بمرئياتها تجاه تلك التجارب الواعدة سواء في المسرح او غيره من الأنشطة التربوية التي تعمل التربية على تنميتها جنبا إلى جنب مع مناهجها التعليمية المختلفة ، ولا يخفى على الجميع بأن وصول مثل هذه المرئيات المثريةإلى الجهات المعنية بها بالوزارة يعد من الأهمية بمكان حتى تتحقق الأهداف المنشودة من أجل دعم مسيرة التطوير في العملية التربوية .
    إن ما شد فضولي لإعادة قراءة هذا المقال هي الموازنة التي يطرحها المقال بين تجربتين مسرحيتين : الأولى جعلت الكاتب ينتشي بالمسرح المدرسي ويفخر به بل ويأمل بأن يكون بذرة جاهزة للمسرع العماني الكبير ما جعله يشهد على جدية الدعم من قبل وزارة التربية وعلى التغيرات الإيجابية في المسرح المدرسي والتي جاءت مواكبة لتغيرات العصر ومتطلباته .
    أما التجربة الثانية فقد قلبت رأي الكاتب حتى صار متحاملا على وزارة التربية متذمرا من ضعف أدوارها اللغوية والمسرحية والتعليمية لما حملته تلك التجربه من مشاهد مغلوطة و أخطاء لغوية واضحة ، مع أنها تعد كأي تجربة إنسانية قابلة للنقد والوقوع في الخطأ .
    لست هنا لطلب تعليلات من الكاتب حول ما قد يلمسه قراء المقال من استشفاف حكمين متناقضين نتيجة الاطلاع على مجرد تجربتين مسرحيتين ، ولكنها بالأحرى هي دعوة للكاتب و لجميع الأقلام المبدعة في الفن والأدب لتعمل على إلقاء نظرة شاملة والاطلاع عن قرب لمحتلف تجارب الأنشطة المدرسية سواء المسرح أو الأدب لتكون آراؤهم صادرة ليس فقط من مجرد مشاهدة تجربتين وإنما من خلال التعايش مع الجهود المختلفة في مستوياتها وقدراتها سواء كانت خلف الكواليس أو أمامها فمثل هذه الخبرات والآراء تعد من الوسائل الأساسية التي تبحث عنها وزارة التربية لتحقيق غاياتها المنشودة في مسيرة التغيير والتقدم .
    عامر العيسري

    ردحذف
  2. هناك تحامل واضح من الكاتب على هذا العمل فنراه يطلق أوصافا تتنافى والموضوعية (عرض قلة أدب ) لم نعرفك مصادرا للفكر ولا سيافا تقطع رأس من يخالفك في الرؤى المسرحية فلماذا هذا التحامل أم أن الشأن شخصي !! متفقون أن المسرح اجتهادات فلماذا تريد للعمل أن يكون برؤيتك الأحادية شخصيا اعتبرته اجتهادا جيدا يحيل إلى أن الضجيج سمة العصر وأن الإبداع لا يظهر إلا من رحم المعاناة التي يعيشها وعاشها شعراء وكتاب ومبدعون كعنترة وطرفة وشوقي الخ فلماذا تصيد أخطاء في مسرح مدرسي .

    ردحذف
    الردود
    1. هل تعتقد أن هناك وجهات نظر طرحت في العمل؟ ثم لماذا أتحامل على العرض؟ وأنا لا أعرف أحدا ممن يقدمه، ولو كان أقرب المقربين مني لكنت أكثر شدة في كتابتي عنه، ويمكنك أن تسأل المقربين مني... أبدا لست متحاملا ولا أحمل كراهية لأحد، ولكن العرض ليس به وجهات نظر كي تقول بأني أصادر وجهات نظر، ثم لماذا لا تذهب إلى التربويين الذين حضروا العرض وتسألهم رأيهم فيه؟
      وجهة النظر ليست في تقديم معلومات خاطئة وتربية الطلاب على جانب سلبي، إنما في طرحها بما يتوافق والبند التربوي الذي يفترض أنك عارف به، وهو لم يكن حاضرا على وجه الاطلاق، حتى مع الإخراج الجميل، إخراج الحركة وليس الأداء...
      عموما لك كل التحية.. وبكل تأكيد الحديث يطول

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة